شهدت مصر خلال السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في حجم ونوعية الحملات الإعلامية الموجهة ضدها، حيث أصبحت تلك الحملات لا تقتصر على الأدوات الدعائية التقليدية المتمثلة في نشر الشائعات أو نشر تقارير إعلامية مضللة، بل تطورت تدريجيًا إلى مستوى أكثر تعقيدًا وخطورةَ، بلغ ذروته مع توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي التحويلي (Generative AI) وأدوات التزييف الرقمي العميق (Deepfake) لإنتاج محتوى يصعب التحقق من زيفه بالوسائل التقليدية.
ويمثل هذا التوظيف نقلة نوعية في طبيعة التهديدات الإعلامية غير التقليدية، إذ أصبحت الجهات المعادية – سواء كانت تنظيمات سياسية أو جماعات إرهابية أو منصات إعلامية مدعومة من أجهزة استخبارات أجنبية – قادرة على صناعة روايات رقمية متكاملة تتضمن شخصيات افتراضية تحاكي الواقع الواقعية وصورًا ومقاطع فيديو وتسجيلات صوتية مفبركة، جميعها تستهدف زعزعة الثقة بين الدولة والمجتمع، والنيل من صورة مصر الإقليمية والدولية.
ويكشف هذا التحول عن تطور بالغ الخطورة في أدوات الحرب النفسية والإعلامية، فلم يعد الصراع يقتصر على التضليل التقليدي، بل أصبح يرتكز على “الهندسة الإدراكية” التي تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي وصناعة سرديات بديلة، حيث تتجاوز المخاطر حدود المجال الإعلامي لتتحول إلى تهديد مباشر للأمن القومي المصري، من خلال محاولة إضعاف التماسك الداخلي للدولة المصرية والدفع إلى تراجع مكانتها الإقليمية والدولية، ما يجعل الفضاء الرقمي ساحة صراع مستقبلية.
أولًا: مؤشرات التحول في طبيعة الحملات الإعلامية المعادية للدولة المصرية
شهدت الحملات الإعلامية ضد الدولة المصرية تطورًا تدريجيًا من الأساليب التقليدية إلى الحملات الهجينة ثم الذكية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وهو ما يتضح ملامحه من خلال ما يلي:
من الحملات التقليدية إلى الحملات الهجينة: بدأت هذه الحملات بإعادة تدوير الشائعات والتقارير المضللة، لكنها تطورت إلى حملات هجينة تمزج بين التضليل الإعلامي والهجمات الإلكترونية وتوظيف الملفات الحقوقية والسياسية، معتمدة على شبكات إعلامية ومنظمات حقوقية وحسابات وهمية وروبوتات رقمية (Bots) لخلق صورة توحي بوجود غضب شعبي وفرض أجندة إعلامية وسياسية داخليًا وخارجيًا.
الهجوم المركب: تتسم هذه الحملات الهجينة بكونها هجمات موجهة متعددة الطبقات، تبدأ من تصنيع المحتوى داخل غرف عمليات إعلامية، ثم تضخيمه عبر الحسابات الوهمية والروبوتات الرقمية، ليُعاد تصديره لاحقًا إلى وسائل إعلام دولية ومنظمات حقوقية كبرى، بهدف ممارسة ضغوط سياسية على الدولة المصرية، مما يمنحها تأثيرًا متدرجًا ومستدامًا يجعلها أخطر من الحملات التقليدية.
من الحملات الهجينة إلى الحملات الذكية: يمثل توظيف الذكاء الاصطناعي التحويلي وتقنيات التزييف العميق أخطر مراحل تطور الحملات الإعلامية، إذ تجاوز الأمر تضخيم الأخبار، بل أصبح بالإمكان تصنيع محتوى رقمي كامل يصعب كشفه، وقد باتت الجهات المعادية قادرة على إنتاج صور وفيديوهات وتسجيلات تبدو واقعية لشخصيات مختلفة تُستخدم لخلق روايات مضللة تنال من مصداقية الدولة وتضعف ثقة المجتمع، بما يجعل هذه المرحلة أكثر قدرة على تقويض الاستقرار الداخلي والتأثير على مكانة مصر إقليميًا ودوليًا.
دلالة هذا التحول: يكشف الانتقال من الحملات التقليدية إلى الهجينة ثم الذكية عن تصاعد تدريجي في الأدوات الإعلامية المعادية، حيث بُنيت كل مرحلة على سابقتها وأضافت أدوات جديدة، لخلق منظومة متكاملة توظف التضليل والهجمات السيبرانية والتلاعب الحقوقي والتزييف العميق، لتشكل أحد أخطر التحديات غير التقليدية للأمن القومي المصري.
ثانيًا: أساليب استخدام الذكاء الاصطناعي في التضليل الإعلامي
تتسم الحملات الإعلامية المعادية في مرحلتها الراهنة بتوظيفها لتقنيات الذكاء الاصطناعي التحويلي لإنتاج محتوى زائف عالي الإتقان يصعب كشفه بالطرق التقليدية، وهو ما يظهر في مجموعة من الأساليب التي يمكن رصد أبرزها فيما يلي:
صناعة الشخصيات الافتراضية: تُعد من أخطر أساليب الحملات الإعلامية، حيث يجري إنتاج شخصيات رقمية متقنة تُقدم للجمهور على أنها ضباط أو مسؤولون سابقون يكشفون “حقائق” أو “فضائح” مزعومة عن مؤسسات الدولة، وتستند هذه الممارسات إلى تقنيات التزييف العميق التي تمنح الشخصيات واقعية في الملامح والحركات والصوت، بما يجعلها مقنعة حتى مع الإعلان بأنها مُصنعة بالذكاء الاصطناعي، وقد استُخدمت بالفعل مقاطع من هذا النوع لتشويه سمعة المؤسسات الوطنية وتقويض ثقة المواطن بها.
التلاعب بالصور والفيديو: لم يعد التضليل الإعلامي يقتصر على النصوص أو التصريحات المزورة، بل توسع ليشمل إنتاج صور ومقاطع فيديو مفبركة توحي بوقائع لم تحدث، وتهدف هذه المشاهد -التي تبدو واقعية ومثيرة للتعاطف- إلى ترويج سردية تورط الدولة في انتهاكات جسيمة، بما يضاعف حدود الضغوط الداخلية والخارجية عليها على المستويين الشعبي والدولي.
تزوير التسجيلات الصوتية: عبر إنتاج تسجيلات مزيفة تُنسب للأجهزة الأمنية بهدف التحريض وإثارة الرأي العام، وتُروج هذه المواد باعتبارها أدلة على “انتهاكات ممنهجة”، وهو ما يسهل تصديرها إلى المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الدولية، التي قد تتعامل معها كحقائق موثقة.
التضخيم المنهجي عبر الشبكات المنظمة: لا تنتشر المواد المزيفة عشوائيًا، بل تُدار عبر شبكات من الحسابات الوهمية والروبوتات الرقمية التي تعيد نشر المحتوى بشكل متكرر لخلق زخم إعلامي يوحي بوجود قضية حقيقية، ثم يُعاد تصديره إلى منظمات حقوقية ووسائل إعلام دولية لتوظيفه لفرض ضغوط سياسية، ما يحول الأكاذيب الرقمية إلى “وقائع” تُستخدم ضد الدولة في المحافل الدولية.
ثالثًا: تحليل الأهداف الأمنية والاستخباراتية للحملات الإعلامية المعادية
لم تعد الحملات الإعلامية المعادية مجرد تحركات معزولة، بل باتت جزءًا من إستراتيجية مركبة تُدار عبر شبكات تضم منصات إعلامية معارضة وتنظيمات إرهابية وأحيانًا بدعم استخباراتي خارجي، ويكشف هذا التداخل أن الهدف يتجاوز التشويه المؤقت ليصل إلى محاولة إضعاف الدولة المصرية داخليًا وخارجيًا، وهو ما تتضح أبرز معالمه ما يلي:
استهداف الجبهة الداخلية: يتمثل الهدف الأساسي لهذه الحملات في إضعاف ثقة المواطن في مؤسسات الدولة عبر نشر روايات مضللة تشكك في شرعية المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية، مما يفتح المجال لإثارة الرأي العام وإضعاف التماسك الاجتماعي والسياسي، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي ويجعل الدولة عرضة لاضطرابات في لحظات دقيقة.
الإضرار بالسمعة الدولية لمصر: إلى جانب استهداف الداخل، تُوظف هذه الحملات كأداة لتشويه صورة مصر على الساحة الدولية، بما يؤدي إلى إضعاف دعم القوى الإقليمية والدولية للدولة المصرية في ملفات حيوية مثل مكافحة الإرهاب والأمن المائي واستقرار الإقليم، ما قد يقوض قدرة مصر على حماية مصالحها الاستراتيجية.
محاولة لكسب التعاطف والشرعية: تُوفر هذه الحملات بيئة مناسبة تستغلها الكيانات المعادية وكذلك التنظيمات الإرهابية لتسويق خطابها العدائي باعتباره رد فعل على “انتهاكات مزعومة”، ما يمنحها غطاءً سياسيًا وإعلاميًا يخفف من إداناتها الدولية وقد يساعدها هذا في جذب عناصر جديدة متعاطفة مع خطاب المظلومية، وهو ما يعقد مهمة الدولة المصرية في مواجهتها، ويعكس صورة الدولة كمسؤولة لا كمتضررة من الإرهاب.
تقويض الدور الإقليمي للدولة: تتجاوز هذه الحملات الطابع الإعلامي التقليدي لتتصل بأجندات أمنية خفية تستهدف إضعاف القوة التفاوضية المصرية في القضايا الإقليمية والدولية، وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية بما يتعارض مع المصالح المصرية.
رابعًا: التداعيات المحتملة على الأمن القومي المصري
يمثل توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الحملات الإعلامية الموجهة ضد الدولة المصرية تطورًا نوعيًا في أدوات التأثير الإعلامي، يتجاوز حدود التضليل التقليدي ليشكل عامل تهديد استراتيجي للأمن القومي ويمكن إبراز أهم التداعيات على النحو التالي:
إضعاف التماسك المجتمعي: يؤدي انتشار المحتوى المفبرك عالي الإتقان إلى إضعاف ثقة المواطنين في الخطاب الرسمي، خاصة عندما يصعب على الجمهور التمييز بين الحقيقة والزيف، وهذا الانهيار التدريجي في الثقة يُعد من أخطر التهديدات، لأنه يفتح المجال أمام خصوم الدولة لبث سرديات بديلة، ويقوض قدرة المجتمع على التوحد خلف مؤسساته في أوقات الأزمات، كما أن فقدان الثقة يزيد من القابلية للانقسام السياسي والاجتماعي.
تشويه السمعة الدولية: لا تستهدف حملات التزييف العميق الداخل فقط، بل تُنتج مواد مصممة خصيصًا لتصدير صورة سلبية عن مصر إلى الخارج، مثل تصويرها كمنتهكة لحقوق الإنسان أو عاجزة عن تحقيق الاستقرار، وهذا التشويه المتعمد قد ينعكس على مواقف المنظمات الدولية وحكومات أجنبية، ويُستخدم ذريعة لفرض ضغوط سياسية أو اقتصادية أو حتى تقليص التعاون الدولي في ملفات استراتيجية، وبذلك تصبح السمعة الدولية أداة ضغط تعيق الدبلوماسية المصرية وتُقيد فاعليتها.
حروب بالوكالة رقمية: يتيح الذكاء الاصطناعي للأطراف المعادية إدارة “حروب ناعمة” منخفضة التكلفة دون الحاجة لتدخل عسكري مباشر، وهذه الحروب الرقمية يمكن أن تؤدي إلى إضعاف الجبهة الداخلية وإرباك الإدارة السياسية عبر الدفع بمعلومات مضللة وأزمات مفتعلة، والأخطر أن هذه الاستراتيجية توفر للخصوم فرصة إلحاق الضرر بمصر من دون تكلفة تُذكر أو مواجهة مفتوحة، وهو ما يمثل امتدادًا للحرب بالوكالة التقليدية، لكن في صورة أكثر تطورًا وخفاءً.
إضعاف الشرعية السياسية: تخلق الحملات المفبركة مناخًا من الشك المستمر في أداء النظام الحاكم ومؤسسات الدولة، فالمعارضة الداخلية والخارجية تجد في هذه المواد “أدلة” جاهزة للطعن في القرارات والسياسات الحكومية، خاصة في الملفات الحساسة كالإصلاح الاقتصادي أو إدارة الأزمات، ومع تراكم هذه الحملات قد يتولد ضغط اجتماعي وسياسي واسع، ينعكس في صورة زيادة الاحتجاجات الداخلية، وهو ما يمس مباشرة استقرار الدولة السياسي.
التأثير النفسي والمعنوي: لا يقتصر الخطر على المستوى المادي أو السياسي، بل يمتد إلى البعد النفسي والاجتماعي، فالمشاهد المفبركة للعنف أو الفوضى أو الانتهاكات تخلق حالة من القلق الجماعي وفقدان الإحساس بالأمان، حتى وإن كان المواطن يعلم أنها قد تكون غير حقيقية، وهذا القلق يُضعف الروح الوطنية ويُزيد من هشاشة المجتمع أمام الشائعات، ما يسهل على الجهات المعادية نشر سردياتها، وهنا يتحول الإعلام إلى أداة لـ”الإرهاب النفسي”، وهو أخطر أشكال الحروب غير التقليدية لأنه يضعف الروح المعنوية والعزيمة الوطنية.
التداعيات الاقتصادية: التشويه الإعلامي الممنهج يترك أثرًا غير مباشرًا على الاقتصاد، حيث يؤثر في ثقة المستثمرين والممولين الأجانب عبر خلق صورة وهمية عن هشاشة الوضع الداخلي، ما قد يؤدي إلى تراجع تدفقات الاستثمارات الأجنبية والسياحة وإلى انخفاض التصنيفات الائتمانية للبلاد، وعلى المدى الطويل قد يُعيق ذلك مسارات التنمية الاقتصادية ويجعل الاقتصاد المصري أكثر تأثرًا بالتقلبات الخارجية.
تصاعد سباق التسلح المعلوماتي: مع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي في الحملات الإعلامية، تصبح المنطقة معرضة لسباق محموم لتطوير القدرات الهجومية والدفاعية في الفضاء الرقمي، وبالنسبة لمصر يعني هذا أعباء إضافية على الموازنة العامة لتطوير بنية تحتية سيبرانية متقدمة وتشريعات حديثة قادرة على مواكبة هذه التحديات، كما أن عسكرة الفضاء المعلوماتي تُحول الإعلام إلى جبهة صراع موازية للجبهات العسكرية التقليدية، وهو ما يتطلب تعزيز صياغة مفهوم الأمن القومي ليشمل الأمن الإعلامي والمعلوماتي.
اضطراب العلاقات الخارجية المصرية: يمكن أن تستغل بعض القوى الإقليمية والدولية الحملات الإعلامية المفبركة كأداة ضغط على مصر في ملفات استراتيجية، مثل قضايا الطاقة أو الأمن المائي أو التسويات الإقليمية، وهذا التعقيد قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية على نحو يضر بمصالح مصر، ويضعها في موضع دفاعي مستمر وبذلك تتحول الحملات الإعلامية إلى عنصر في “القوة الذكية” التي توظفها بعض الأطراف لإعادة رسم موازين القوى في المنطقة.
خامسًا: السيناريوهات المستقبلية وتقدير المخاطر
تكشف الحملات الإعلامية المعادية المدعومة بالذكاء الاصطناعي أنها في مسار تصاعدي متسارع بفعل التطور التكنولوجي المتواصل، ما يجعلها تمثل تهديدًا مفتوحًا يتجاوز حدود اللحظة الراهنة، ومن هنا تبرز الحاجة إلى استشراف مساراتها المحتملة عبر مجموعة من السيناريوهات المستقبلية وفق “المنهج الزمني في بناء السيناريوهات” (Time Horizon Scenarios)، الداعم لصانع القرار المصري على رؤية المخاطر القريبة التي تتطلب استجابة عاجلة، مقابل التهديدات البعيدة التي تحتاج خططًا استراتيجية، وهو يتضح فيما يلي:
السيناريو الأول: التشويش المحدود (قصير المدى – من 6 أشهر إلى عام)
على المدى المنظور، من المتوقع أن تستمر الحملات الإعلامية بنفس النمط الحالي، أي عبر نشر صور ومقاطع فيديو مزيفة يتم إنتاجها باستخدام تقنيات التزييف العميق، وتستهدف بشكل أساسي المؤسسات السيادية والأمنية، ورغم أن تأثيرها قد يظل محدودًا نسبيًا على المدى القريب بفعل تزايد وعي المجتمع، فإنها ستبقى قادرة على إثارة الرأي العام، وهذا السيناريو يتراوح مستوى تهديده للأمن القومي المصري ما بين الدرجة المنخفضة والمتوسطة، الأمر الذي يستدعي تطوير آليات استجابة إعلامية وتقنية عاجلة وفعالة للحد من تداعياته المحتملة.
السيناريو الثاني: الضغوط المتصاعدة (متوسط المدى – من عام إلى ثلاثة أعوام)
يُرجح أن تشهد الحملات تطورًا نوعيًا على المدى المتوسط عبر الاعتماد على شخصيات افتراضية شديدة الواقعية، مع زيادة التنسيق بين المنصات الإعلامية المعادية ووسائل إعلام دولية ومنظمات حقوقية، ما يؤدي إلى تصاعد الضغوط السياسية والاقتصادية على الدولة المصرية، وقد يُستغل هذا المناخ من الكيانات المعادية والتنظيمات الإرهابية لتقديم خطاب مبني على ادعاء المظلومية السياسية وتقديم رد فعل على “انتهاكات مزعومة”، بما يمنحها مساحة أكبر للتحرك وإيجاد غطاء سياسي وإعلامي لنشاطها، ويؤدي حدوث هذا السيناريو إلى تهديد مرتفع ومباشر للأمن القومي المصري إذ يجمع بين تطور الأدوات التقنية وتوسع الأبعاد السياسية والدبلوماسية للأزمة.
السيناريو الثالث: الحرب المعلوماتية الشاملة (طويل المدى من ثلاثة إلى خمسة أعوام)
إذا لم تُواجه هذه الحملات استباقيًا وبشكل فعال، فمن المرجح أن تتطور إلى حرب معلوماتية شاملة تتزامن مع هجمات سيبرانية منظمة تستهدف البنية المعلوماتية الحيوية للدولة، مثل شبكات الاتصالات والقطاع المالي والبنى التحتية، وبهذا لن تكون الحملات مجرد أداة للتشويه، بل جزءًا من عملية أوسع لإضعاف قدرات الدولة على إدارة ملفاتها الاستراتيجية، وهو ما يلقي بتداعيات جسيمة على الأمن القومي المصري لأنه يمثل تهديدًا مباشرًا للسيادة الوطنية، ويقوض قدرة مصر على الدفاع عن مصالحها الإقليمية والدولية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السيناريوهات ليست مسارات حتمية، بل احتمالات مفتوحة تتحدد وفق سرعة وكفاءة استجابة الدولة المصرية على المستويين الإعلامي والتقني، ومن ثم فإن تبني سياسات استباقية شاملة يشكل عنصرًا حاسمًا في الحد من تداعياتها على الأمن القومي.
سادسًا: مسارات التحرك الاستراتيجية
تقتضي مواجهة الحملات الإعلامية المعادية المدعومة بالذكاء الاصطناعي اعتماد مقاربة شاملة للأمن القومي، تتكامل فيها الأدوات الإعلامية والتقنية والتشريعية والدبلوماسية، وذلك على النحو التالي:
بناء قدرات إعلامية مضادة: أهمية تطوير منظومة إعلامية وطنية قادرة على إنتاج محتوى عالي المصداقية وسريع الاستجابة، بما يواكب سرعة انتشار التضليل الرقمي، ويشمل ذلك الاستثمار في تدريب الكوادر الإعلامية، وتطوير منصات رقمية حكومية وشبه حكومية ذات تأثير داخلي وخارجي، فضلًا عن تعزيز الشراكات مع المجتمع المدني والقطاع الخاص لمضاعفة القدرة على التصدي الفوري وتقديم الصورة الحقيقية للأحداث.
تعزيز الدفاعات التقنية: تقتضي مواجهة التزييف العميق إنشاء بنية تقنية متقدمة للكشف عن المحتوى المزيف وتحليله بصورة فورية، ويتطلب ذلك الاستثمار في الذكاء الاصطناعي الدفاعي، وإنشاء وحدات متخصصة داخل المؤسسات لرصد ورقمنة الاستجابة، مع التعاون مع الشركات العالمية للأمن السيبراني، فضلاً عن أهمية رفع الوعي الرقمي المجتمعي الذي يشكل خط الدفاع الأول في تحصين المواطنين من التضليل الإعلامي.
تحديث الإطار التشريعي: أهمية مراجعة التشريعات الوطنية لتجريم إنتاج أو ترويج المحتوى المزيف الذي يستهدف الأمن القومي المصري، مع وضع آليات مساءلة واضحة للأفراد والكيانات المشاركة في هذه الأنشطة، بما يعزز ثقة المجتمع المحلي والدولي في حماية الدولة فضائها الإعلامي والرقمي.
تفعيل الدبلوماسية الوقائية: نظرًا للطبيعة العابرة للحدود لهذه التهديدات، يصبح التعاون الدولي ضرورة ملحة، ما يبرز دور الدبلوماسية الوقائية عبر المشاركة النشطة في صياغة الاتفاقيات الدولية الخاصة باستخدام الذكاء الاصطناعي، وبناء تحالفات مع الدول التي تواجه تهديدات مماثلة، ما يعزز دور مصر الريادي في وضع معايير وضوابط عالمية تقلل من التداعيات المحتملة، وتمنع استغلال هذه التقنيات كسلاح موجه ضد استقرارها.
دمج البُعد الاقتصادي في المواجهة: تعزيز الثقة في الاقتصاد المصري من خلال تبني سياسة اتصال مؤسسية منتظمة تستند إلى نشر بيانات دورية موجهة للأسواق، مدعومة بحملات ترويجية تستهدف إيضاح الحقائق وإبراز الإنجازات التنموية، بما يسهم في الحد من استخدام الملف الاقتصادي كأداة للضغط من بعض القوى الإقليمية والدولية.
ختامًا، تمثل هذه التوصيات إطارًا متسقًا لمواجهة تحديات الحرب المعلوماتية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، إذ أن الاستجابة الفعالة لهذه الحملات تقتضي تبني مقاربة شمولية تتكامل فيها الأبعاد الإعلامية والتقنية والقانونية والدبلوماسية، باعتبار أن هذه الظاهرة تجسد منعطفًا جديدًا من الحروب غير التقليدية، ولا يمكن التصدي لها إلا عبر بناء منظومة وطنية مرنة وقادرة على التكيف السريع مع التحولات الرقمية، حيث يغدو الأمن الإعلامي مكونًا رئيسيًا من مكونات الأمن القومي، بما يفرض تطوير استراتيجيات وطنية وإقليمية طويلة المدى تكفل صمود الدولة أمام هذه التهديدات المستحدثة.