تتزامن الذكرى الثانية والخمسون لنصر أكتوبر المجيد مع واقع إقليمي ودولي شديد التعقيد، ومعركة داخلية لا تقل خطورة “معركة الوعي”، لقد أثبتت التجربة المصرية عبر تاريخها الحديث أن أي نصر عسكري أو إنجاز سياسي لا يكتمل إلا إذا حُمي في وجدان الأمة، وصار جزءاً من إدراكها الجمعي، من هنا تكتسب معركة الوعي أهميتها القصوى، إذ أصبحت هي الامتداد الحقيقي لمعركة أكتوبر، والمعركة الشاملة ضد الإرهاب.
في هذا السياق، تسعى بعض المؤسسات الحقوقية والبحثية، ومعها منصات إعلامية موجهة، إلى تحويل “السردية الوطنية” إلى روايات مشوهة، تقدم مصر كدولة في أزمة دائمة أو ككيان يفتقد الشرعية، هذه الأدوات لا تعمل في فراغ، بل تتحرك وفق استراتيجيات لحروب الجيل الرابع والخامس، حيث يتحول الخبر الكاذب أو التقرير الموجه إلى سلاح قادر على إحداث أثر سياسي ومعنوي يعادل أثر الضربة العسكرية.
تنقسم هذه القراءة إلى خمسة أقسام رئيسية، البعد التاريخي لمعركة أكتوبر ومعركة الوعي، الأدوات الجديدة في الحرب على الوعي، الدور الوطني للمواطن المصري في خط الدفاع الأول، التنمية كحصن منيع ضد محاولات التشويه، أمانة الشهداء ومعركة الوعي المستمرة.
أولًا: البعد التاريخي لمعركة أكتوبر ومعركة الوعي
لم يكن نصر أكتوبر عام 1973 مجرد عبور عسكري للقناة وتحطيم لأسطورة خط بارليف، بل كان عبوراً نفسيًا ووجدانيًا من حالة الهزيمة بعد نكسة 1967 إلى حالة النصر والثقة بالقدرة على صناعة المستقبل، فقد استطاعت القيادة المصرية حينها أن تحول الإحباط الشعبي إلى روح تعبئة وطنية شاملة، شارك فيها الجندي على الجبهة، والعامل في المصنع، والفلاح في الحقل، والمرأة في كل موقع.
هذا البعد التاريخي يكشف أن المعركة لم تكن عسكرية فقط، بل كانت معركة وعي بالأساس، إذ كان على المصريين أن يتغلبوا على فكرة “الجيش الذي لا يُقهر” وأن يؤمنوا بقدرتهم على استعادة الأرض والكرامة، وقد تحقق ذلك بفضل إدراك عميق لدى القيادة بأن النصر يبدأ من العقول والقلوب، قبل أن يُحسم في الميدان.
اليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة عقود، تجد مصر نفسها أمام معركة مشابهة، فبعد أن نجحت في القضاء على الإرهاب عسكريًا، تواجه حربًا من نوع آخر، تستهدف التشكيك في هذا النصر، وتشويه الإنجازات التنموية، وتحطيم ثقة المواطن بدولته، وإذا كان جيل أكتوبر قد كسر أسطورة الجيش الإسرائيلي، فإن جيل اليوم مطالب بكسر أسطورة “الحرب الناعمة” التي تستهدف وعيه وتماسكه الوطني.
ثانيًا: الأدوات الجديدة في الحرب على الوعي
تطورت الحروب عبر العقود الماضية، وانتقلت من جبهات القتال التقليدية إلى ساحات الإعلام والفضاء الرقمي، ومع ظهور ما يُعرف بحروب الجيل الرابع والخامس، أصبحت المعركة تدور حول السيطرة على العقول أكثر من السيطرة على الأرض، وتستخدم المؤسسات الحقوقية والبحثية والإعلامية الموجهة عدة أدوات في هذه الحرب:
- إعادة صياغة الرواية الوطنية: تحويل إنجازات الدولة في مكافحة الإرهاب إلى اتهامات بانتهاك حقوق الإنسان.
- إضعاف الثقة الداخلية: تضخيم المشكلات الاقتصادية أو الاجتماعية لتصوير الدولة كعاجزة عن تلبية احتياجات شعبها.
- خلق ضغوط خارجية: تقديم تقارير مسيسة للمنظمات الدولية والبرلمانات الغربية بهدف فرض عقوبات أو ممارسة ابتزاز سياسي.
- التضخيم الإعلامي: توظيف وسائل الإعلام التقليدية والجديدة لتكرار الرسائل السلبية حتى تتحول في وعي بعض المتلقين إلى “حقائق” لا جدال فيها.
- الاستهداف الممنهج للشباب: عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُضخ يومياً آلاف الرسائل التي تتلاعب بالعاطفة وتستهدف زعزعة الانتماء الوطني.
بهذا تتحول هذه المؤسسات إلى “مدفعية ناعمة” في ميدان الحرب المعلوماتية، هدفها النهائي ليس النقد أو الإصلاح، بل تفكيك التماسك الوطني وضرب الشرعية الشعبية للدولة.
ثالثاً: الدور الوطني للمواطن المصري في خط الدفاع الأول
إذا كان الجندي المصري في أكتوبر هو بطل معركة التحرير، فإن المواطن المصري اليوم هو بطل معركة الوعي. إن وعي المواطن، وإدراكه لطبيعة ما يُحاك ضد وطنه، يمثل خط الدفاع الأول ضد الشائعات والتقارير الموجهة. ويتجلى هذا الدور في عدة مستويات:
- المستوى الفردي: حيث يصبح المواطن مسؤولاً عن التحقق من صحة المعلومات قبل مشاركتها، وعن رفض الانجرار وراء الدعايات المغرضة.
- المستوى الأسري: إذ تتحمل الأسرة دوراً محورياً في غرس الانتماء لدى الأبناء وتعليمهم مهارات التفكير النقدي.
- المستوى التعليمي: من خلال مناهج دراسية تعزز الهوية الوطنية وتعرض الحقائق التاريخية بلا تشويه.
- المستوى الإعلامي: إذ يقع على عاتق الإعلام الوطني أن يقدم رواية متماسكة وشفافة، تكشف التزييف وتبرز الإنجازات.
وبهذا المعنى، يصبح كل مواطن جنديًا في ميدان الوعي، يسهم في حماية وطنه كما أسهم أسلافه في حمايته بالسلاح.
رابعًا: التنمية كحصن منيع ضد محاولات التشويه
من أبرز ملامح المواجهة المصرية مع الإرهاب أنها لم تقتصر على البعد العسكري والأمني، بل امتدت إلى التنمية الشاملة، خصوصًا في المناطق التي عانت من الإرهاب مثل سيناء. إن مشروعات الطرق والأنفاق، وتوسيع الرقعة الزراعية، وبناء المدارس والمستشفيات، ليست مجرد إنجازات اقتصادية، بل هي أدوات استراتيجية لحماية الأمن القومي، فحين يرى المواطن ثمرة تضحياته في صورة مشروعات تنموية، يزداد وعيه بجدوى الصمود، وتفشل حملات التشويه في إقناعه بأن ما ضحى به كان عبثًا. وهنا تتجلى العلاقة الوثيقة بين التنمية والوعي، فالتنمية تعطي المواطن حافزاً لحماية وطنه، والوعي يحمي التنمية من التشويه، إنها حلقة متكاملة تشكل درعاً صلباً ضد محاولات الاختراق الخارجي.
خامساً: أمانة الشهداء ومعركة الوعي المستمرة
يبقى البعد الأخلاقي والرمزي لمعركة الوعي هو الأعمق أثرًا، فدماء الشهداء في أكتوبر، ودماء شهداء الجيش والشرطة في الحرب على الإرهاب، ليست مجرد تضحيات عابرة، بل هي أمانة في أعناق الأجيال اللاحقة. هذه الأمانة تعني أن الحفاظ على النصر لا يقتصر على الاحتفالات السنوية، بل يتطلب جهداً يومياً لحماية الوعي الوطني من التشويه، إن الوفاء للشهداء يعني أن نواصل بناء الوطن، وأن نرد على الشائعات بوعي، وعلى التشكيك بإنجازات ملموسة، وعلى الأكاذيب بثقة راسخة. من هنا، فإن معركة الوعي ليست أقل شأناً من معركة السلاح، بل هي امتداد طبيعي لها، وإذا كان أكتوبر قد علمنا أن النصر يبدأ من العقول قبل أن يُحسم في الميدان، فإن حاضرنا يؤكد أن الحفاظ على الدولة يبدأ من وعي المواطن قبل أن يتحقق بأي إنجاز مادي.
ختاماً… إن مصر، وهي تستعيد ذكرى نصر أكتوبر العظيم، تدرك أن التحديات الجديدة لا تواجهها بالدبابات والطائرات فقط، بل بالوعي والفكر والثقافة، فكما عبر الجيش المصري القناة وحطم خط بارليف، يعبر الشعب المصري اليوم معركة الوعي ويحطم أسوار التضليل والتشويه. الوعي هو السلاح الأهم في عصر الحرب المعلوماتية، والتنمية هي الحصن الذي يحمي هذا الوعي من الاختراق، وإذا كان نصر أكتوبر قد أثبت أن مصر قادرة على قلب الموازين العسكرية، فإن معركة الوعي اليوم تثبت أنها قادرة أيضًا على قلب الموازين الإدراكية والإعلامية. وبهذا يتجدد درس أكتوبر: مصر لا تُهزم ما دام أبناؤها مؤمنين بوطنهم، مدركين لحقيقة ما يُحاك ضدهم، وواعين بأن النصر لا يُستكمل إلا إذا حُمي في وجدان الأمة.