في السابع والعشرين من يونيو 2025، شهدت القارة الإفريقية تطورًا دبلوماسيًا بارزًا تمثل في توقيع اتفاق سلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، بوساطة مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقد مثل هذا الاتفاق اختراقًا في مسار مفاوضات شاقة استمرت لسنوات، وأسفر النزاع خلالها عن سقوط آلاف الضحايا ونزوح مئات الآلاف، ما جعل من هذا التفاهم لحظة مفصلية في جهود إحلال السلام في منطقة البحيرات الكبرى.
يكتسب هذا الاتفاق أهمية خاصة لا لكونه يسعى إلى إنهاء أحد أطول النزاعات المسلحة في إفريقيا فحسب، بل لأنه يأتي في سياق تنافس دولي متصاعد على النفوذ في القارة، ولا سيما في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية الحيوية، إذ تعد جمهورية الكونغو الديمقراطية من أغنى دول العالم بالمعادن الاستراتيجية، مثل التنتالوم، والذهب، والكوبالت، والنحاس، والليثيوم، التي تشكل ركيزة أساسية للصناعات التكنولوجية الغربية، وفي مقدمتها الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية.
من هذا المنطلق، لا يمكن قراءة الاتفاق بوصفه تسوية ثنائية معزولة، بل كجزء من مشهد جيواقتصادي أوسع، تسعى من خلاله القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين، إلى إعادة ترسيم نفوذها في إفريقيا. وعليه، يفتح هذا التطور الباب أمام جملة من التساؤلات الاستراتيجية بشأن مآلات الاتفاق، وحدود فعاليته، وتأثيراته المحتملة على توازن القوى الإقليمي والدولي في واحدة من أكثر المناطق حساسية من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية، ولعل أبرز هذه التساؤلات:
- هل يمثل هذا الاتفاق نقطة تحول حقيقية نحو تسوية شاملة أم مجرد هدنة مؤقتة؟
- إلى أي مدى تستطيع الولايات المتحدة ترجمة هذا الاختراق الدبلوماسي إلى استقرار فعلي في الميدان؟
- وهل يكفي البعد الاقتصادي وحده لضمان التنفيذ، في ظل استمرار نشاط الجماعات المسلحة وغياب الثقة بين الطرفين؟
أولًا: البنود الرئيسية لاتفاق السلام
نصت الاتفاقية التي وقعتها رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية على إعادة الالتزام المتبادل بإعلان المبادئ الموقع في 25 أبريل 2025، والذي يؤكد على احترام السيادة الوطنية، والسلامة الإقليمية، والوحدة الوطنية، والتسوية السلمية للنزاعات، كما شددت الاتفاقية على أهمية الحل السياسي التفاوضي بديلًا عن الحلول العسكرية، مع التأكيد على احترام مبادئ القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي، وميثاق الأمم المتحدة، وقرار مجلس الأمن رقم 2773 الصادر في 21 فبراير 2025، إلى جانب قرارات دولية أخرى ذات صلة.
وتتضمن الاتفاقية شروطًا ميدانية محددة، أبرزها:
- تحييد قوات تحرير رواندا الديمقراطية (FDLR).
- فض الاشتباك بين القوات المسلحة للطرفين.
- رفع التدابير الدفاعية التي اتخذتها رواندا في إطار عملية “لواندا”، وخاصة خطة العمليات (CONOPS) الصادرة في 31 أكتوبر 2024.
- الأخذ في الاعتبار ما ورد في القمة المشتركة الثانية لرؤساء دول وحكومات مجموعة شرق أفريقيا والسادك (24 مارس 2025)، والنتائج التي خلص إليها الاجتماع الوزاري السادس بين البلدين في نوفمبر 2024.
كما يُراعي الاتفاق المفاوضات الجارية بين الكونغو الديمقراطية وحركة “M23″، التي تتم بوساطة دولة قطر، على الرغم من أن الحركة لا تعد طرفًا مباشرًا في الاتفاق الحالي، ورغم أن الاتفاق ينظر إليه كمحطة سياسية مهمة، يرى بعض المحللين أن فعاليته المحدودة تكمن في استثنائه الفعلي لأبرز الجماعات المسلحة الفاعلة ميدانيًا، والتي لا تعتبر نفسها مُلزمة ببنوده، وهو ما يُضعف من فرص إنهاء القتال بشكل شامل وسريع.
ثانيًا: الاتفاق كفرصة استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية
لا يمكن قراءة اتفاق السلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية بمعزل عن التحولات الجيوسياسية والجيواقتصادية في أفريقيا، والدور المتنامي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى استعادته في مواجهة النفوذ الصيني والروسي المتزايد، ويعد هذا الاتفاق بمثابة فرصة استراتيجية متعددة الأبعاد لواشنطن، لعدة أسباب رئيسية:
- ضمان الوصول إلى المعادن الحيوية: تضم أراضي الكونغو الديمقراطية بعضًا من أكبر احتياطيات العالم من الكوبالت، الليثيوم، التنتالوم، والذهب، وهي معادن أساسية في صناعة التكنولوجيا الحديثة والبطاريات الكهربائية والطاقة المتجددة، وتعد السيطرة على سلاسل توريد هذه الموارد أولوية قصوى للولايات المتحدة في ظل التنافس مع الصين، التي تسيطر فعليًا على جزء كبير من عمليات التعدين والتكرير عالميًا.
- تثبيت النفوذ الأمريكي في قلب أفريقيا: تمثل الوساطة الأمريكية في الاتفاق محاولة لإعادة بناء النفوذ السياسي والدبلوماسي لواشنطن في منطقة البحيرات العظمى، والتي طالما كانت ساحة تنافس بين قوى دولية متعددة. ويعزز هذا الاتفاق من موقع الولايات المتحدة كفاعل محوري في تسوية النزاعات، ويمنحها دورًا مباشرًا في رسم ترتيبات ما بعد الصراع.
- فتح مسارات جديدة للاستثمار: ينص الاتفاق على إطلاق إطار خلال 90 يومًا لتوسيع التجارة والاستثمار في سلاسل توريد المعادن الحيوية، وهو ما يمهد الطريق أمام شركات أمريكية كبرى للاستثمار في التعدين والبنية التحتية، في بيئة أكثر استقرارًا نسبيًا، وبشروط أمنية ودبلوماسية تضمن الحماية والمصالح الأمريكية.
- تعزيز صورة واشنطن كقوة وسيطة للسلام: تسعى الولايات المتحدة إلى تحسين صورتها في أفريقيا، خاصة بعد تراجع الدعم التنموي وتنامي الاتهامات بالانشغال بالمصالح الاقتصادية على حساب الأبعاد الإنسانية، ويتيح هذا الاتفاق لواشنطن الظهور كقوة داعمة للسلام والتنمية، وهو ما يمكن توظيفه في بناء شراكات جديدة في القارة
- خلق توازن استراتيجي في وجه الصين: يمثل الانخراط الأمريكي في هذا الاتفاق رسالة واضحة إلى الصين، مفادها أن الولايات المتحدة لن تترك المجال مفتوحًا بالكامل أمام بكين لتوسيع نفوذها الاقتصادي واللوجستي في أفريقيا، خاصة في المناطق ذات الثقل المعدني والاستراتيجي.
ثالثًا: ثغرات الاتفاق.. انتقادات تكشف تحديات التنفيذ وغياب الشمول
تعكس الانتقادات الموجهة لاتفاق السلام بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية مخاوف واقعية من أن الاتفاق، رغم كونه خطوة مهمة نحو التهدئة، يعاني من ثغرات جوهرية قد تعيق تنفيذه أو تفرغه من مضمونه، ويمكن تلخيص أبرز هذه الانتقادات فيما يلي:
- غموض في معالجة الجماعات المسلحة: أحد أبرز أوجه القصور في الاتفاق هو غياب آليات واضحة بشأن موعد وكيفية انسحاب الجماعات المتمردة، مثل حركة M23 وغيرها، والتي لا تُعد طرفًا مباشرًا في الاتفاق. هذا التجاهل يطرح تساؤلات حول قدرة الاتفاق على تحقيق تسوية شاملة، في ظل استمرار وجود فاعلين مسلحين لا يشعرون بأنهم معنيّون ببنوده.
- تركيز غير متوازن على الكونغو دون رواندا: يركز الاتفاق بشكل رئيسي على نزع سلاح الجماعات داخل الكونغو، دون أن يتضمن بنودًا صريحة تتعلق بدور القوات الرواندية، رغم وجود تقارير أممية ومنظمات حقوقية تتهم كيغالي بدعم متمردين في شرق الكونغو، وهذا الخلل في التوازن يجعل الاتفاق يبدو وكأنه يُحمّل الكونغو العبء الأكبر، ويُغفل المسؤوليات المتبادلة.
- تجاهل أزمة النزوح واللاجئين: رغم أن النزاع أسفر عن نزوح نحو 7 ملايين شخص داخل الكونغو، لم تتضمن الاتفاقية أي إشارات إلى حق العودة أو خطط لإعادة دمج النازحين واللاجئين، ما يُضعف البعد الإنساني للاتفاق ويُبقي على واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية دون معالجة.
- غياب آلية تنفيذ ومراقبة: لم يتضمن الاتفاق تفاصيل عملية حول كيفية مراقبة تنفيذه أو التحقق من التزام الأطراف به، كما لم يُنشأ إطار دولي لمحاسبة من يخرق الاتفاق، ما يُعرضه لخطر الانهيار في حال نشوء أي أزمة ميدانية أو سياسية مفاجئة.
رابعًا: السيناريوهات المحتملة لمسار الاتفاق بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية
- السيناريو الأول: هدنة مؤقتة تليها عودة تدريجية للاشتباكات (الأكثر ترجيحًا): يرجح هذا السيناريو أن تشهد المرحلة المقبلة تهدئة محدودة نتيجة الضغوط الدولية، دون أن تتوفر آليات حقيقية للتنفيذ والمراقبة، خاصة مع غياب الأطراف المسلحة عن الاتفاق، وأبرزها حركة M23، التي لا تعترف بشرعيته، كما أن التباينات بين مواقف رواندا والكونغو، وضعف التنسيق الإقليمي، قد تؤدي إلى تآكل الثقة بين الجانبين. في هذه الحالة، قد يُستخدم الاتفاق كغطاء مؤقت لتحسين التموضع الميداني، دون معالجة جذرية للصراع، ما يؤدي لاحقًا إلى تجدد الاشتباكات، واستمرار الوضع الهش، ويبقي على حالة عدم الاستقرار شرق الكونغو.
- السيناريو الثاني: انهيار الاتفاق وتصاعد المواجهات (مرجح): في أسوأ الحالات، قد ينهار الاتفاق في وقت مبكر، سواء بسبب خروقات مباشرة من أحد الطرفين، أو نتيجة تحركات من أطراف ثالثة تدعم الفصائل المسلحة، مثل رواندا أو جهات إقليمية أخرى، وتكمن خطورة هذا السيناريو في غياب آلية رقابة دولية ميدانية، واستمرار حالة انعدام الثقة، إلى جانب احتمال إخفاق الولايات المتحدة في تقديم دعم اقتصادي وتنموي يعزز فرص الاستقرار، في هذه الحالة من المتوقع أن تعود أعمال العنف بشكل واسع، مع تدهور إضافي في الوضع الإنساني، وتفاقم أزمة النزوح، وفقدان واشنطن لمصداقيتها كوسيط، مما يعقد أي جهود مستقبلية لبناء سلام حقيقي ومستدام.
- السيناريو الثالث: تنفيذ فعلي للاتفاق وتهدئة تدريجية (الأقل ترجيحًا): يفترض هذا السيناريو التزام الأطراف الرئيسية رواندا والكونغو بتنفيذ بنود الاتفاق بشكل عملي، بما يشمل فض الاشتباك، تحييد الجماعات المسلحة، وبدء خطوات التعاون الاقتصادي خلال المهلة المحددة (90 يومًا)، تحت إشراف أمريكي نشط وضمانات دبلوماسية، ويتطلب لنجاح هذا السيناريو ضغوطًا دولية متواصلة، واستيعاب حركة M23 في تسوية موازية، ودمج ملف النزوح في جدول الحلول المقترحة، وإذا تحقق قد يؤدي إلى تخفيف ملموس في حدة الصراع، وتحسين مناخ الاستقرار، وفتح الباب أمام الاستثمارات الغربية، خاصة الأمريكية، في قطاع المعادن الحيوية، إلى جانب تعزيز مكانة واشنطن كوسيط دولي فاعل في أفريقيا.
خامسًا: نحو اتفاق شامل ومستدام.. مقترحات لتعزيز فرص السلام بين رواندا والكونغو
انطلاقًا من أهمية ضمان تنفيذ الاتفاق بما يحقق سلامًا، فإن المقترحات التالية تطرح كمدخل عملي لتعزيز فرص نجاح التسوية بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومعالجة التحديات البنيوية والسياسية التي قد تعيق استقرار المنطقة، وبما يسهم في ترسيخ السلام في منطقة البحيرات الكبرى.
- إشراك الفاعلين المسلحين غير الموقعين: وعلى رأسهم حركة M23 وذلك لضمان شمولية الاتفاق واستدامته، بما يُسهم في إدماج هذه الأطراف ضمن العملية السياسية، ويمنع تحولها إلى عوامل معطلة لمسار السلام، وينبغي أن يستند هذا المسار إلى ضمانات أمنية وسياسية تشجع على المشاركة الفاعلة، دون الإخلال بمبادئ العدالة والمساءلة.
- إنشاء آلية دولية مستقلة لمراقبة تنفيذ الاتفاق: لضمان تنفيذ الاتفاق بشكل فعّال وشفاف، يوصى بإنشاء هيئة رقابية دولية مستقلة تحت مظلة الأمم المتحدة أو الاتحاد الإفريقي، بحيث تتولى هذه الهيئة مهام رصد الالتزام ببنود الاتفاق، وتوثيق الانتهاكات من كلا الجانبين، ورفع تقارير دورية إلى المجتمع الدولي، بما يعزز الثقة بين الأطراف ويحول دون العودة إلى النزاع.
- إدراج معالجة أزمة النزوح ضمن أولويات الاتفاق: نظرًا للطبيعة الإنسانية الحادة للنزاع، يقترح تضمين بنود واضحة وصريحة تتعلق بعودة اللاجئين والنازحين داخليًا، مع وضع خطة مرحلية لضمان أمنهم، وتوفير سبل العيش، وإعادة إدماجهم في مجتمعاتهم الأصلية، ويجب أن تقرن هذه الإجراءات بدعم دولي فني ومالي، لتأمين بيئة آمنة ومستقرة لعملية العودة.
- تحقيق التوازن في الالتزامات بين الطرفين: يتعين أن يبنى الاتفاق على مبدأ التوازن في المسؤوليات والواجبات، بحيث تلزم كل من رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية باتخاذ إجراءات واضحة ومتكافئة، ويشمل ذلك وقف الدعم للجماعات المسلحة، وضبط الحدود، وتبادل المعلومات الأمنية، ما يعزز من مصداقية الاتفاق ويقلل من فرص تقويضه من قبل أي طرف.
- تعزيز الشفافية في إدارة واستغلال الموارد الطبيعية: تعد الثروات المعدنية في المنطقة أحد أبرز أسباب النزاع، لذلك يقترح إنشاء آليات ثنائية أو متعددة الأطراف لإدارة هذه الموارد بشفافية، بما يضمن عدم تحولها إلى عامل تأزيم جديد. يمكن أن تشمل هذه الآليات نظامًا مشتركًا للترخيص، وقواعد لمكافحة التعدين غير القانوني، وتوجيه عائدات الموارد نحو مشاريع تنموية مشتركة تُسهم في تحقيق السلام الاقتصادي.