نفذت الولايات المتحدة فجر يوم 22 يونيو 2025 هجومًا جويًا مفاجئًا استهدف ثلاثة مواقع نووية في إيران؛ أصفهان، نتنز، وفوردو، في عملية أطلق عليها «مطرقة منتصف الليل» باستخدام مجموعة كبيرة ومتنوعة من الطائرات العسكرية تتقدمها سبع قاذفات استراتيجية من طراز B-2 Spirit كانت قد أقلعت من قاعدة وايتمان الجوية في ولاية ميسوري الأمريكية باتجاه إيران، وقد وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الهجوم بـ “الناجح للغاية”، داعيًا طهران إلى وقف هجماتها الصاروخية على إسرائيل والعودة إلى المسار التفاوضي، ويعد هذا الهجوم الأمريكي، بالمناسبة، الأول من نوعه داخل حدود إيران منذ عام 1980 عندما شنت القوات الأمريكية الخاصة عمليةً عسكرية في أبريل من هذا العام لتحرير الرهائن المختطفين في مبنى السفارة الأمريكية في أعقاب اندلاع الثورة الإسلامية التي أنهت النظام الملكي، لكن هذه العملية التي حملت اسم «مخلب النسر» مُنيت بالفشل نتيجة تحطم طائرتين ومقتل عدد من الجنود الأمريكيين.
ومنذ بدء الضربات الجوية الإسرائيلية على إيران في 13 يونيو 2025 والتي قابلها هجوم صاروخي واسع من قبل الجمهورية الإسلامية، كان أحد المسارات المحتملة للتصعيد بين الدولتين يتمثل في إمكانية انخراط الولايات المتحدة في عملية عسكرية إلى جانب إسرائيل، بعدما فشلت هذه الأخيرة في تحقيق أهدافها بتدمير المنشآت النووية الإيرانية الحصينة، ولاسيما موقع فوردو في جنوب طهران الذي شيده الإيرانيون على عمق عشرات الأمتار تحت الأرض، لذا كان متوقعًا أن تتصدر مقاتلات بي-2 الخطوط الأمامية للقتال في حال استجابت واشنطن لضغوط حليفها الإسرائيلي وأقدمت على توجيه ضربة عسكرية مباغتة ضد إيران، لكونها المقاتلة الوحيدة المُهيأة والمبرمجة لحمل قنابل خارقة للتحصينات.
في هذا السياق، يُلقي هذا التقرير الضوء على القاذفة الاستراتيجية B-2، من خلال الوقوف على مواصفاتها وقدراتها التسليحية، وكذلك قواعدها التشغيلية ومناطق انتشارها، واستعراض أهم المعارك والعمليات العسكرية السابقة التي شاركت فيها منذ دخولها الخدمة وصولًا إلى عملية «مطرقة منتصف الليل» ضد المنشآت النووية الإيرانية.
التصنيع وتاريخ الانضمام للقوات الجوية
طورت القاذفة الاستراتيجية بعيدة المدى B-2 Spirit من قبل شركة نورثروب (المعروفة الآن باسم نورثروب غرومان) خلال الحرب الباردة في إطار برنامج سري للغاية بدأ عام 1979، تحت مسمى قاذفة التكنولوجيا المتقدمة (ATB)، بهدف اختراق الدفاعات الجوية للاتحاد السوفيتي، وقد حلقت القاذفة في أول تجربة طيران لها عام 1989، وسلمت أول نسخة منها لسلاح الجو الأمريكي في ديسمبر 1993، فيما دخلت الخدمة فعليًا بعد ذلك بخمس سنوات[1].
تعد القاذفة B-2 من أكثر الأسلحة الاستراتيجية الحديثة تطورًا، وهي تمثل رمزًا للابتكار التكنولوجي والتفوق العسكري الأمريكي، ما يجعلها أغلى طائرة عسكرية تم صناعتها على الإطلاق، إذ تتجاوز تكلفة الطائرة الواحدة أكثر من 2 مليار دولار، لذا لم يصنع منها حتى اليوم سوى 21 قطعة، ومع ذلك فهي تمثل عنصرًا أساسيًا في الثالوث النووي الأمريكي، بجانب قاذفة القنابل الاستراتيجية B-52 Stratofortress والقاذفة B-1 Lancer، كما تعد أيضًا من بين عدة طائرات يمتلكها الجيش الأمريكي حصرًا، وتمتنع واشنطن عن تصديرها أو بيعها حتى لأقرب حلفائها، كبريطانيا وإسرائيل، ما يجعلها رمزًا لهيمنة الولايات المتحدة وقوتها الضاربة.
المواصفات والقدرات التسليحية
1- الشكل العام والخصائص الشبحية: يبلغ طول القاذفة الشبحية بي-2 حوالي 20,9 مترًا بارتفاع خمسة أمتار، فيما يصل طول جناحيها إلى 52 مترًا[2]، وبخلاف القاذفات الأخرى فقد صممت الـ B-2 بشكل مثلثي وبلا ذيل تقليدي، وتتمتع القاذفة بالقدرة على اختراق أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة لاعتمادها تكنولوجيا التخفي المتطورة، فضلًا عن طلاءاتها الخاصة التي تساعد على امتصاص الإشارات الرادارية، مما يصعب على رادارات العدو رصدها، ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا فشلت أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية في اكتشافها عندما اخترقت أجوائها ولم تتمكن من الاشتباك معها.
2- التحليق بعيد المدى: تتميز القاذفة الشبحية أيضًا بأنها مزودة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الذي يمكنها من توجيه ضربات دقيقة ضد الأهداف المُحددة، ولديها القدرة على التحليق لأكثر من 9000 كم دون الحاجة إلى التزود بالوقود ما يجعلها قادرة على الوصول إلى أي هدف في العالم.
3- القدرات التسليحية: أهم ما يميز القاذفة الاستراتيجية B-2 يتعلق بقدراتها التسليحية؛ إذ يمكن تزويدها بمجموعة متنوعة من الأسلحة التقليدية والنووية، بالإضافة إلى ذلك يمكن تجهيزها لحمل القنابل الضخمة الخارقة للتحصينات والمخابئ الأرضية، والحديث هنا عن القنبلة GPU-57 التي يصل وزنها إلى 13 طنًا، ما يجعلها أكبر قنبلة غير نووية في الترسانة الأمريكية، وقد تم تطويرها بديلًا لقنبلة GPU-43 التي يُشار إليها بـ «أم القنابل»، وتستطيع قنبلة GPU-57 المطوَّرة، والتي يبلغ طولها نحو ستة أمتار، اختراق سطح الأرض لعدة أمتار قبل أن تنفجر، خلافًا للقنابل التقليدية الأخرى التي تنفجر بمجرد ملامسة الهدف؛ لذا استُخدمت في الهجوم الأمريكي الأخير على منشأة فورودو لتخصيب اليورانيوم المشيدة على عمق 80 مترًا تحت الأرض، وهو ما يفسر استعانة القوات الأمريكية بالقاذفة الشبحية B-2 تحديدًا كونها الطائرة الوحيدة القادرة على حمل هذه الفئة الضخمة من القنابل.
القواعد التشغيلية ومناطق الانتشار
تعد قاعدة وايتمان الجوية في ولاية ميسوري الأمريكية القاعدة التشغيلية الرئيسية للقاذفات الاستراتيجية B-2 منذ تسليمها إلى سلاح الجو الأمريكي في تسعينيات القرن الماضي، ومع ذلك، عكفت وزارة الدفاع الأمريكية على نشر عدد من هذه الطائرات في مناطق أخرى حول العالم، ضمن إطار الاستراتيجية الأمريكية لتعزيز النفوذ في منطقتي الشرق الأوسط والمحيط الهادئ؛ حيث رُصدت القاذفات B-2 في قاعدة غوام البحرية في المحيط الهادئ، وفي قاعدة دييغو غارسيا الاستراتيجية وسط المحيط الهندي.
المعارك والمهام القتالية
مع دخولها الخدمة عام 1998، شاركت القاذفة الاستراتيجية B-2 في عديد المهام والعمليات العسكرية الأمريكية، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الظهور الأول في كوسوفو: جاء أول ظهور للقاذفة الشبحية بي-2 في مسرح القتال خلال حرب كوسوفو، التي جرت عام 1999 بمشاركة الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث تمكنت طائرات B-2 من تدمير 33% من الأهداف الصربية المحددة في الأسابيع الثمانية الأولى من دخول القوات الأمريكية الحرب، كما أصبحت قاذفات بي-2 في هذه الحرب أول طائرة تُسقط قنابل ذكية موجهة بالأقمار الصناعية من نوع JDAM[3].
2- الغزو الأمريكي لأفغانستان: في أكتوبر من عام 2001، كانت قاذفات B-2 أول طائرة أمريكية تدخل المجال الجوي الأفغاني، مما مهد الطريق لطائرات التحالف الأخرى للاشتباك مع قوات طالبان وتنظيم القاعدة[4]، وقد حققت القاذفة B-2 خلال هذه الحملة رقمًا قياسيًا لأطول مهمة قتالية جوية؛ حيث تمكنت من التحليق داخل الأجواء الأفغانية في مهمة استغرقت 44 ساعة، ثم توقفت لمدة 45 دقيقة دون إطفاء محركاتها لتبديل الطاقم وإجراء الصيانة اللازمة قبل أن تحلق مرةً أخرى لـ 30 ساعة باتجاه قاعدتها في ولاية ميسوري، لتتجاوز مدة طيرانها الإجمالية 70 ساعة متواصلة[5].
3- الحرب ضد النظامين العراقي والليبي: مع اندلاع الحرب الأمريكية على العراق عام 2003، شاركت قاذفات B-2 في توجيه عدة ضربات جوية، استهدفت مواقع قيادة ومنشآت صواريخ يشتبه في ارتباطها بصدام حسين، وكان لهذه الضربات دورًا حاسمًا في تدمير الدفاعات الجوية العراقية، وفي عام 2011 عندما شن حلف الناتو حملةً جوية ضد النظام الليبي، استهدفت ثلاث قاذفات B-2، كانت قد تحركت من الولايات المتحدة باتجاه ليبيا، مطارًا عسكريًا، وساعدت على فرض منطقة حظر جوي في غضون بضع ساعات، ما أدى إلى تقويض القدرات الجوية الليبية سريعًا[6].
4- الغارات الجوية ضد الحوثيين: شاركت القاذفات الاستراتيجية بي- 2 في أكتوبر 2024 في الهجمات الأمريكية ضد معاقل الحوثيين في اليمن والتي أسفرت عن تدمير عدة مواقع لتخزين الأسلحة، قبل أن تقود الهجوم الأمريكي الأخير على المنشآت النووية الإيرانية في 22 يونيو 2025 والذي أكسبها شهرة دولية واسعة.
5- عملية مطرقة منتصف الليل: شارك في الهجوم الأمريكي على المنشآت النووية الإيرانية، وفقًا لما صرحت به وزارة الدفاع الأمريكية، عشرات الطائرات العسكرية، بما في ذلك سبع قاذفات B-2 ومجموعة من طائرات الدعم والتزود بالوقود؛ حيث اخترقت القاذفات الشبحية الأجواء الإيرانية وتمكنت من إلقاء 14 قنبلة خارقة للتحصينات فوق منشأة فوردو المحصنة دون أن تتمكن منظومة الرادار الإيرانية من التقاطها أو رصدها، قبل ذلك أطلقت غواصة في منطقة مسئولية القيادة المركزية في بحر العرب نحو 20 صاروخًا من طراز توماهوك Tomahawk باتجاه موقع أصفهان النووي، وقد استغرقت رحلة القاذفات الشبحية منذ إقلاعها من قاعدتها الجوية في ولاية ميسوري وحتى العودة إليها مرةً أخرى بعد انتهاء العملية العسكرية قرابة 37 ساعةً، تخللتها ثلاثة توقفات للتزود بالوقود جوًا، وهي أطول مهمة للقاذفة الشبحية مُنذ انخراطها في أفغانستان عام 2001.