مثلت قمة شرم الشيخ للسلام منعطفًا استراتيجيًا في مسار تفاعلات الشرق الأوسط، إذ لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بل شكلت تحولًا نوعيًا في هندسة الواقع الإقليمي عبر مبادرة مصرية استهدفت إعادة توجيه الأولويات من منطق الصراع إلى مسار الاستقرار والتنمية، وقد عبر الرئيس عبد الفتاح السيسي – في كلمته خلال القمة – عن هذا التوجه بوضوح حين أعرب عن أمله في أن “يُغلق هذا الاتفاق صفحة أليمة في تاريخ البشرية، ويفتح الباب أمام عهد جديد من السلام والاستقرار في الشرق الأوسط”.
كما استطاعت القاهرة، من خلال هذا التحرك، أن تُعيد ترسيخ دورها القيادي في إدارة ملفات الأمن الإقليمي وإحياء التنسيق الدولي حول قضايا المنطقة، حيث جمعت القمة أكثر من عشرين دولة عربية وغربية برئاسة مشتركة مصرية – أمريكية هدفت إلى تثبيت اتفاق غزة واحتواء تداعياته الإنسانية والسياسية.
في المقابل، واجهت القمة حملات دعائية مضادة سعت إلى تشويه الحدث وتقويض مكاسبه عبر خطاب إعلامي متناقض ومشحون بالمغالطات، استهدف النيل من الدور المصري وإضعاف رمزيته الإقليمية.
انطلاقًا من ذلك، يهدف هذا التقدير إلى تقديم قراءة شاملة للحدث، من خلال تفكيك إيجابياته واستعراض أبعاده الاستراتيجية، وكشف أساليب الدعاية المعادية وتناقضاتها البنيوية، وصولًا إلى طرح توصيات عملية من شأنها تعظيم المكاسب المصرية وحماية الزخم الوطني والأمني المتولد عن هذا التحرك القيادي.
أولًا: مكاسب دبلوماسية وآفاق استراتيجية جديدة
تُعد هذه القمة محطة بارزة في مسار السياسة الإقليمية المصرية، إذ أفرزت عددًا من المكاسب التي يمكن عرض أبرزها على النحو الآتي:
- رصيد دبلوماسي واستراتيجي متجدد: أعادت قمة شرم الشيخ للسلام تأكيد قدرة الدولة المصرية على إدارة الملفات الإقليمية المعقدة، بعدما نجحت في جمع أطراف عربية ودولية فاعلة على منصة تفاوضية واحدة، وقد مثل ترؤس الرئيس عبد الفتاح السيسي القمة إلى جانب نظيره الأمريكي، وبمشاركة أكثر من عشرين قائدًا من مختلف دول العالم، إقرارًا ضمنيًا بدور مصر المحوري في صياغة التفاهمات الإقليمية، واعترافًا بأن مصر طرفًا فاعلًا لا يمكن تجاوزه في أي تسوية محتملة تتعلق بغزة أو بمسار الأمن الإقليمي عمومًا، وقد منح هذا الحضور الدولي الرفيع – الذي ضم الوسطاء الرئيسيين من مصر وقطر وتركيا إلى جانب الولايات المتحدة – رصيدًا تفاوضيًا واستراتيجيًا متقدمًا يعزز موقع القاهرة في أي مفاوضات لاحقة، ويؤكد شرعية وريادة التحرك المصري على المستويين الدولي والإقليمي.
- ربط الأمن بالبعد الإنساني والتنموي: تجاوزت مخرجات القمة الإطار التقليدي لوقف إطلاق النار لتؤسس لمفهوم السلام الإيجابي القائم على الدمج بين الأمن والتنمية، فقد تبنت القمة خطة متكاملة لفتح الممرات الإنسانية والتمهيد لإعادة إعمار غزة، وأعلن الرئيس السيسي نية مصر استضافة مؤتمر دولي للتعافي المبكر والإعمار بالتنسيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين، وهذا التوجه يعكس رؤية مصرية تستهدف تحويل الهدنة إلى استقرار دائم عبر مسارات تنموية واقعية، بما يعزز فرص بناء بيئة أكثر استقرارًا واستدامة، كما توافق المشاركون على أن تثبيت الأمن لا ينفصل عن تحسين الحياة اليومية للسكان وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، في إشارة إلى توافق دولي متزايد حول دمج البعد الإنساني في منظومة الأمن الإقليمي.
- وحدة عربية ومعنوية متجددة: عكست القمة حالة من التماسك العربي من خلال التفاعل الإيجابي لدول عربية رئيسية – مثل قطر والأردن والبحرين – مع المبادرة المصرية، في مشهد أعاد إبراز روح العمل العربي المشترك وقدرته على تحقيق نتائج ملموسة متى توافرت الإرادة السياسية والرؤية الموحدة، وقد أعاد هذا التوافق إنتاج سردية الوحدة والقدرة الذاتية العربية في مواجهة خطاب الانقسام الذي طالما استغلته القوى المعادية، وسحب البساط من الحملات الدعائية التي تستهدف التشكيك في الدور المصري، كما أكد المشهد العربي الموحد أن العمل الجماعي المنسق لا يزال أداة فعالة في تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية، عندما يتكامل مع الرؤية المصرية القائمة على التوازن والمسؤولية الإقليمية.
ثانيًا: أنماط الدعاية المضادة وتناقضاتها
رُصِدت جملة من الأنماط الدعائية المضادة التي أعقبت قمة شرم الشيخ للسلام، وهدفت إلى النيل من شرعية الإنجاز المصري والتقليل من قيمته عبر سرديات متناقضة ومغلوطة، ويمكن إجمالها فيما يلي:
- التقليل من شرعية الاتفاق: روجت بعض المنصات المعادية لرواية تصف اتفاق وقف إطلاق النار بأنه “هدنة مؤقتة بلا قيمة”، في محاولة لتقويض جدواه وتصويره كإنجاز هش، وتتجاهل هذه السردية أن كل مسار سلام يبدأ بتثبيت وقف إطلاق النار باعتباره المدخل الإلزامي لأي حل سياسي مستدام، فالقيمة السياسية لا تُقاس بمدته الزمنية بل بقدر ما يمهد له من إجراءات لاحقة كتبادل الأسرى والمساعدات والمفاوضات، ما يجعل وصفه بـ”الهدنة الفارغة” طرحًا يفتقر إلى الفهم السياسي والواقعية الدبلوماسية.
- اختلاق روايات بروتوكولية وأمنية: سعت بعض الجهات إلى ترويج شائعات حول اضطرابات أمنية أو انسحابات مفاجئة لتصوير القمة كحدث مرتبك، غير أن الوقائع الميدانية الموثقة أظهرت أن القمة سارت وفق ترتيباتها المعلنة، وشهدت حضورًا دوليًا واسعًا دون أي إخلال بالأمن أو البروتوكول. فعلى سبيل المثال، جرى تضخيم مسألة توجيه دعوة متأخرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي ثم اعتذاره عن عدم الحضور وتصوير ذلك كفشل مصري، بينما أوضحت البيانات الرسمية والإعلامية أن غياب نتنياهو جاء نتيجة ضغوط متعددة منعته من المشاركة، ويتضح من ذلك أن هذه المزاعم استهدفت النيل من الثقة بقدرة الدولة على إدارة الأحداث الكبرى، إلا أن الشفافية المصرية والتغطية الإعلامية المباشرة أفشلتا تلك المحاولات.
- استهداف الإجراءات الأمنية: حاولت حملة أخرى تصوير التأمين المكثف للقمة على أنه “استعراض أمني”، متجاهلة أن حماية قمة يحضرها عشرات القادة تمثل واجبًا سياديًا أساسيًا لأي دولة مضيفة، فالإجراءات الأمنية المشددة ليست مبعث انتقاد بل دليل كفاءة، وقد لاقت منظومة التأمين المصري إشادة واسعة من دوائر دولية، ما يُسقط الطرح القائل إن الانتشار الأمني دليل ضعف، وتظهر هذه السردية بوصفها محاولة مكشوفة لتحويل عناصر القوة إلى مظاهر سلبية.
- انتقاد إنساني مزيف يتجاهل التعقيدات: تبنى بعض المعلقين خطابًا مثاليًا يصور أي اتفاق لا يحقق كل المطالب فورًا بأنه “تنازل” أو “تفريط”، ويتجاهل هذا الخطاب تعقيد المشهد السياسي وتشابك المصالح، إذ إن التحول من الحرب إلى السلام عملية تراكمية تبدأ بخطوات جزئية تُمكن من إنقاذ الأرواح وتحسين الأوضاع تمهيدًا لتسويات أوسع، وقد أسهمت القمة في وقف نزيف الدم وإغاثة المدنيين وتهيئة بيئة تفاوضية نحو حل شامل، ورفض هذا المسار بدعوى المثالية يتناقض مع مصلحة الشعوب ذاتها، ويعكس توجهًا دعائيًا عاطفيًا أكثر من كونه قراءة واقعية لضرورات الأمن الإقليمي.
ثالثًا: أدوات الردع الفكري والمنهجي
نجحت الدولة المصرية، في تحصين الوعي العام ضد حملات التضليل التي أعقبت القمة، من خلال مجموعة من المرتكزات الفكرية والمنهجية التي أثبتت فعاليتها في الردع المعنوي وتفنيد الدعاية المعادية، وتتجلى هذه المرتكزات في العناصر الآتية:
- الشفافية ووضوح النتائج: اتبعت القاهرة سياسة المكاشفة الفورية بعرض الحقائق الميدانية موثقة بالصور والبث الحي خلال القمة، مما أتاح للجمهور التحقق من الحدث ومقارنته بالدعاية المعادية، وقد ساهمت المشاهد المباشرة لاجتماع القادة وتوقيع الاتفاق، إلى جانب التغطية الإعلامية الدولية الإيجابية، في إضعاف أثر الشائعات وتعزيز المصداقية الوطنية، كما إن الأداء المصري المنضبط – تنظيمًا وتأمينًا ونتائج – مثل أفضل رد عملي على محاولات التشكيك، وأثبت أن الإنجاز الملموس على الأرض يظل السلاح الأنجع في مواجهة الحرب النفسية.
- الخطاب الاستراتيجي ذو الشرعية: حظي الخطاب السياسي المصري بقبول إقليمي ودولي واسع لاعتماده على مزيج من الواقعية الاستراتيجية والثوابت الأخلاقية والتاريخية، فقد تمسكت القيادة المصرية بمبادئ راسخة كدعم الحقوق الفلسطينية ورفض التهجير، مع طرح مقاربات واقعية تدريجية تشمل وقف الحرب، ثم الإعمار، وصولًا إلى العملية السياسية، وهذا المزج بين القيم والمصالح منح الموقف المصري شرعية استراتيجية حصنته من محاولات التشويه، وجعل الدولة المصرية تُقدم كصوت عقلاني في مقابل الخطابات التحريضية والعاطفية، مما رسخ مصداقية الرسالة المصرية على الصعيدين السياسي والإعلامي.
- تآكل نفوذ الأبواق المغرضة رقميًا: خاطبت مصر وجهازها الدبلوماسي والإعلامي الرأي العام الإقليمي والدولي بلغة التنمية والسلام بدلًا من خطاب المظلومية، ما أفقد المنصات المعادية قدرتها على التأثير، إذ وجدت الأوساط الإقليمية والدولية في الخطاب المصري مشروعات واقعية وأملًا في الإعمار وتحسين المعيشة، مقابل تكرار الإعلام المعادي لخطاب التخوين والمؤامرة، وهكذا ساهمت القمة في نقل مركز الثقل الإدراكي من الخطابات المجردة إلى خطاب الحلول العملية، مما أضعف الأرضية الشعبية للدعاية المعادية.
- تحويل العاصفة الإعلامية إلى منصة مواجهة: حولت الدولة المصرية الزخم الإعلامي العالمي المحيط بالقمة إلى منصة تفاعلية لعرض روايتها الرسمية وكشف الأكاذيب، فقد تم تفنيد المزاعم بشكل سريع عبر قنوات رسمية وشعبية، مدعومًا بالأدلة البصرية والوثائقية، مما أفشل محاولات التضليل قبل انتشارها، حيث خرجت الدولة المصرية من هذا الامتحان الإعلامي بصورة أكثر رسوخًا وثقةً في محيطها العربي والدولي.
رابعًا: التوصيات
في ضوء ما سبق يمكن طرح مجموعة من التوصيات الهادفة إلى تعظيم الاستفادة من زخم قمة شرم الشيخ وتعزيز الأمن القومي والإقليمي في المرحلة المقبلة، وذلك على النحو الآتي:
- خطة اتصالية لإبراز رواية الإنجاز: إطلاق حملة إعلامية وأكاديمية ممنهجة لتوثيق مسار المفاوضات ونتائج القمة بأسلوب موضوعي وجاذب، ويشمل ذلك إنتاج مواد وثائقية قصيرة ومتعددة اللغات توضح للرأي العام كيفية التوصل إلى الاتفاق وآليات مراقبته وتنفيذه (تبادل الأسرى، إدخال المساعدات، خطط الإعمار)، كما أن التركيز على قصص النجاح الإنسانية الناتجة عن وقف الحرب وإيصال الإغاثة سيعزز رواية الإنجاز المصري ويُضعف قدرة الأطراف المعادية على تبخيسها.
- تعزيز منظومة رصد الشائعات والخطاب المضلل: تطوير وتوسيع قدرات المنصات الوطنية القائمة المعنية برصد الشائعات لتتحول من مجرد رصد دوري إلى رصد تفاعلي وتحليل استباقي للخطاب المضلل، ويشمل ذلك رفع كفاءة أدوات التحليل الرقمي لرصد الاتجاهات الدعائية العابرة للحدود، وتعزيز التنسيق بين فرق الرصد والجهات الإعلامية والأمنية لضمان سرعة الاستجابة ودقة الردود، كما يُوصى بتكثيف النشر بلغات متعددة لتوسيع دائرة التأثير الخارجي، مع تركيز الجهود على المنصات الرقمية الأكثر نشاطًا بين فئة الشباب، إن تفعيل الرصد الاستباقي القائم على البيانات والتحليل الإعلامي المتقدم سيُضعف فعالية الحملات المعادية ويؤكد قدرة الدولة على التحكم في بيئة الوعي المعلوماتي.
- تعزيز الإجراءات القانونية والإعلامية لمواجهة حملات التشويه: تعزيز فعالية الآليات القانونية والإعلامية القائمة في مواجهة حملات التضليل والتشويه، من خلال رفع كفاءة توثيق ورصد المحتوى المضلل الذي يستهدف الدولة المصرية عبر المنصات الإلكترونية أو الفضائيات، والعمل على تفعيل أدوات المتابعة والمساءلة القانونية بالتنسيق مع الجهات المختصة، كما يُوصى بتوسيع التعاون مع المنصات الرقمية العالمية والمنظمات الدولية – مثل الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للاتصالات – لإبراز مخاطر الشائعات والتضليل الإعلامي على الأمن والسلم الإقليميين.
- برامج فكرية وثقافية لنشر ثقافة السلام: دعم المراكز البحثية والمبادرات الثقافية التي تروّج لخطاب السلام والتنمية كأولوية قومية، ويمكن إطلاق سلسلة ندوات وأوراق بحثية تبرز المكاسب الاقتصادية والاجتماعية للسلام وتفنّد الأسس الفكرية لخطابات الكراهية والتحريض، كما يمكن أن تتناول هذه البرامج القضية الفلسطينية باعتبارها محورًا أساسيًا لفهم معادلة السلام العادل والشامل في المنطقة، من خلال إبراز حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، وتسليط الضوء على أن تحقيق السلام الحقيقي لا ينفصل عن العدالة والتنمية في فلسطين والمنطقة ككل.
الخلاصة:
لم تكن قمة شرم الشيخ حدثًا عابرًا، بقدر ما كانت محطة تأسيسية في إعادة تعريف قواعد التفاعل الإقليمي وصياغة إدراك عربي جديد لمعنى القيادة والتأثير، فقد مثل ما تحقق خلالها وما تلاها نصرًا سياسيًا وفكريًا لمصر، نصرًا يبرهن أن القيادة الرشيدة حين تقترن برؤية استراتيجية راسخة وبالثبات على الثوابت الوطنية، تكون قادرة على تفكيك روايات الكراهية والتشويه بفعالية تفوق أثر القوة العسكرية.
لقد فشلت حملات التضليل الإعلامي لأنها انطلقت من منطق عاطفي منفصل عن الواقع، ومليء بالتناقضات، فانكشفت هشاشتها أمام الوقائع، وفي المقابل نجحت مصر في تحويل قوتها الدبلوماسية إلى تأثير ميداني ومعنوي ملموس شعرت به شعوب المنطقة قبل حكوماتها، ويقع اليوم على عاتق صانع القرار المصري مسؤولية تحويل هذا الزخم إلى مسار استراتيجي ممتد، من خلال متابعة تنفيذ مخرجات القمة بآليات شفافة وفعالة، وبناء شبكة شراكات وتحالفات إقليمية تدعم رؤية السلام والتنمية المستدامة، كما يستدعي الأمر استمرار نهج الخطاب العقلاني الذي يضع أولويات الأمن القومي والتنمية فوق أي اعتبارات أخرى.





