تشهد القارة الإفريقية في المرحلة الراهنة تحولًا رقميًا متسارع الوتيرة، تتصدره تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تمثل إحدى الركائز الجوهرية في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية والمعرفية على الصعيد العالمي، ويأتي هذا التحول في إطار بيئة دولية تتسم بإعادة توزيع موازين القوة التكنولوجية والاقتصادية، حيث بات التفوق يُقاس بدرجة امتلاك الدول لقدرات إنتاج المعرفة والتحكم في تدفقات البيانات والخوارزميات، بما يفوق في أهميته المقاييس التقليدية للقوة القائمة على الموارد الطبيعية أو القدرات العسكرية.
وعلى الرغم من الإمكانات الواسعة التي ينطوي عليها الذكاء الاصطناعي لتعزيز مسارات التنمية في إفريقيا – من خلال تحسين كفاءة القطاعات الإنتاجية والخدمية، ودعم الابتكار وريادة الأعمال، وتطوير آليات إدارة الموارد، ومعالجة التحديات المعقدة – فإن توظيف هذه التقنية في السياق الإفريقي يثير إشكاليات بنيوية تمتد إلى ما هو أبعد من الأبعاد التقنية أو الاقتصادية، لتشمل تأثيرات عميقة على الهوية الثقافية وأنماط التعبير والمعرفة، ويكتسب هذا البعد الثقافي أهمية خاصة في ظل ما تعانيه القارة من إرث تاريخي من الاختلال في التمثيل التكنولوجي والمعرفي، والذي أفضى إلى تبعية في إنتاج المحتوى وصياغة السرديات العالمية.
وفي هذا السياق، يطرح هذا التقرير تساؤلات جوهرية حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيشكل أداة استراتيجية لتمكين المجتمعات الإفريقية من إعادة إنتاج خطابها الثقافي والحضاري على نحو يعزز استقلاليتها المعرفية، أم أنه سينخرط بوعي أو دون وعي في تكريس أنماط جديدة من الهيمنة الرقمية والثقافية، بما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل البنية القيمية والمعرفية للمجتمعات الإفريقية بطريقة تعمّق الفجوة الحضارية القائمة بدلًا من تجاوزها.
أولًا: فجوة لغوية كبرى.. اللغات الإفريقية في نماذج الذكاء الإصطناعي
بالرغم من الديناميات الديموجرافية المتسارعة والنمو الاقتصادي النسبي الذي تشهده بعض دول القارة الإفريقية، يظل تمثيل إفريقيا في المشهد العالمي للذكاء الاصطناعي محدودًا وحذرًا، وفقًا لتقرير Artificial Intelligence Index 2024 الصادر عن ستانفورد وCSET، لا تتجاوز نسبة براءات الذكاء الاصطناعي الممنوحة لإفريقيا جنوب الصحراء 0.12% فقط من الإجمالي العالمي، في حين تستحوذ الولايات المتحدة والصين ودول الاتحاد الأوروبي على الحصة الكبرى من هذه الملكية الفكرية.[1]
ويُعد التنوع اللغوي أحد أبرز ملامح الهوية الإفريقية، إذ تضم القارة أكثر من 2000 لغة وحوالي 3000 لهجة ومع ذلك، تُدرب معظم نماذج الذكاء الاصطناعي الكبرى، مثل GPT وBERT، على مجموعات بيانات يغلب عليها المحتوى المشتق من اللغات الأوروبية، ولا سيما الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية.
وتشير تقارير من منظمات متخصصة، مثل Masakhane وAfrican Language Technology Initiative، إلى أن أكثر من 90% من البيانات النصية المستخدمة عالميًا في تدريب أنظمة معالجة اللغة الطبيعية (NLP) لا تتضمن أي محتوى بلغات إفريقية أصلية، ما يعمق فجوة التمثيل في النظم الذكية، ويرجع ذلك لعدة عوامل:
-
نقص الموارد الرقمية: تعاني اللغات الإفريقية من فجوة كبيرة في البنية التحتية الرقمية، إذ يفتقر نحو 67% من اللغات الموثقة إلى أي شكل من أشكال القواميس الرقمية، فيما تظل 82% منها بلا توثيق نحوي رقمي، كما تُظهر البيانات أن 91% من هذه اللغات لا تمتلك مجموعة نصية قابلة للمعالجة الآلية تتجاوز 10 آلاف كلمة، وهو الحد الأدنى المطلوب لتدريب نماذج لغوية عالية الكفاءة. بالإضافة إلى ذلك، فإن 95% من هذه اللغات لا تتوفر لها تقنيات التحويل بين الصوت والنص (Speech-to-Text وText-to-Speech)، الأمر الذي يحدّ من إدماجها في التطبيقات الذكية المعتمدة على الواجهات الصوتية.[2]
-
شح المصادر النصية المهيكلة: تعيش غالبية اللغات الإفريقية حالة يمكن وصفها بـ”الصحراء الرقمية”، حيث تفتقر 92% منها إلى نصوص رقمية أساسية تُستخدم كبيانات أولية لمعالجة اللغة الطبيعية. علاوة على ذلك، فإن 97% من هذه اللغات تفتقد إلى بيانات مشروحة لمهام أساسية مثل الترجمة الآلية أو التعرف على الكيانات المسماة (Named Entity Recognition)، ما يضع عوائق كبيرة أمام دمجها في منظومة الذكاء الاصطناعي العالمية.[3]
-
فجوة التغطية في النماذج العالمية: تؤكد بيانات النماذج اللغوية العالمية اتساع فجوة الدعم للغات الإفريقية. فعلى سبيل المثال، يدعم نموذج mBERT عددًا من 104 لغات، من بينها 6 لغات إفريقية فقط. أما mT5 فيدعم 14 لغة إفريقية من أصل 29 مستهدفة، بينما يغطي XLM-R ثماني لغات إفريقية فقط. في المقابل، يدعم نموذج NLLB-200-1.5B نحو 38 لغة إفريقية، وهو ما يمثل أقل من 2% من إجمالي لغات القارة. ووفق دراسة بحثية حديثة (يونيو 2025)، يتوفر دعم فعلي لـ 42 لغة إفريقية فقط، مع وجود 23 مجموعة بيانات متاحة للعموم، في حين أن أكثر من 98% من لغات القارة لا تحظى بأي دعم تقني. إضافة إلى ذلك، تقتصر تغطية النماذج الحالية على ثلاث أبجديات — اللاتيني، العربي، والجعزي — متجاهلة أكثر من 20 نظام كتابة إفريقي آخر.[4]
-
تبعية البنى التحتية وهيمنة خارجية: رغم الجهود المحلية، تبقى غالبية المشاريع المعنية بدعم اللغات الإفريقية – بما في ذلك تلك المرتبطة بلغات واسعة الانتشار مثل الـSwahili – تحت إدارة أو تمويل جهات أجنبية. وتشير البيانات إلى أن أكثر من 90% من عمليات تدريب النماذج اللغوية تجري على بنى تحتية خارج القارة، الأمر الذي يعزز التبعية الرقمية ويثير تساؤلات جوهرية حول سيادة البيانات وحق المجتمعات الإفريقية في التحكم بموروثها اللغوي والمعرفي.
ثانيًا: المبادرات الإفريقية المحلية لسد فجوة اللغات في مجال الذكاء الاصطناعي
في مواجهة الفجوة الرقمية العميقة التي تعاني منها اللغات الإفريقية في مجال الذكاء الاصطناعي، برزت خلال السنوات الأخيرة مبادرات محلية تسعى لسد هذا النقص عبر جمع البيانات اللغوية، وتطوير أدوات معالجة اللغة الطبيعية، وبناء بيئة رقمية أكثر شمولًا ودعمًا للتنوع اللغوي في القارة، هذه الجهود تمثل خطوة استراتيجية لحماية الهوية الثقافية الإفريقية وتعزيز حضورها في الفضاء الرقمي العالمي.
-
مشروع MakerereNLP في أوغندا: يُعد مشروع MakerereNLP من أبرز الجهود الأكاديمية في شرق إفريقيا، حيث قام بجمع نحو 900,000 جملة مترابطة بلغة Luganda، إحدى اللغات الأكثر انتشارًا في أوغندا. كما أنتج المشروع بيانات صوتية لكل من Luganda وSwahili عبر منصة Mozilla Common Voice، ما وفر قاعدة بيانات مهمة لتدريب النماذج الصوتية والنصية، ويتميز المشروع بأنه يقوده باحثون محليون، ما يعزز استقلالية البحث ويضمن دقة التمثيل الثقافي واللغوي.[5]
-
مبادرة Masakhane: تُعتبر Masakhane حركة تعاونية إفريقية مفتوحة المصدر، تضم مئات الباحثين من مختلف دول القارة، وتركز على تطوير نماذج وأدوات معالجة اللغة الطبيعية لأكثر من 45 لغة إفريقية، تشمل أعمالها إنشاء مجموعات بيانات لمهام متعددة مثل الترجمة الآلية، تحليل المشاعر، التعرف على الكيانات المسماة، بالإضافة إلى تشجيع النشر العلمي باللغة المفتوحة، وتمثل المبادرة مثالًا على التعاون العابر للحدود، حيث يتم جمع البيانات وتطوير النماذج بمشاركة مجتمعية واسعة.
-
تجربة نموذج Cheetah: في خطوة غير مسبوقة، تم إطلاق نموذج Cheetah التجريبي الذي يدعم 517 لغة إفريقية في النمذجة اللغوية التوليدية، ما يجعله أحد أكثر المشاريع طموحًا على الإطلاق في مجال شمولية الذكاء الاصطناعي، ورغم أن المشروع لا يزال في مراحله المبكرة، فإنه يقدم فرصة فريدة لتجاوز محدودية النماذج العالمية التي تقتصر عادة على عشرات قليلة من اللغات الإفريقية.
وعلى الرغم من أهمية هذه المبادرات، إلا أن أغلب المشاريع الداعمة للغات الإفريقية – حتى في لغات واسعة الاستخدام مثل Swahili – تُدار أو تُمول من جهات أجنبية، وتشير البيانات إلى أن أكثر من 90% من عمليات تدريب النماذج تتم على بنى تحتية تقع خارج القارة، ما يثير مخاوف بشأن التبعية الرقمية وسيادة البيانات، كما تواجه هذه المشاريع تحديات أخرى مثل نقص التمويل، ضعف البنية التحتية البحثية، وصعوبة الوصول إلى بيانات لغوية موثوقة.[6]
ثالثًا: تداعيات التحيزات اللغوية في الذكاء الاصطناعي على الثقافة الإفريقية
تواجه الثقافة الإفريقية تحديًا متصاعدًا في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث تؤدي التحيزات اللغوية المضمنة في النماذج والخوارزميات إلى إعادة إنتاج اختلالات تاريخية في التمثيل الثقافي، ومع محدودية حضور اللغات الإفريقية في الفضاء الرقمي، تتزايد المخاطر المرتبطة بتآكل الهوية، وفقدان المعارف المحلية، وتهميش المشاركة في التحول الرقمي، بما يهدد التنوع الثقافي لصالح نمط عالمي موحّد. ومن أبرز هذه التداعيات:
-
تآكل الهوية اللغوية والثقافية: غياب التمثيل الكافي للغات الإفريقية في النماذج الذكية يؤدي إلى هيمنة اللغات العالمية (كالإنجليزية والفرنسية)، ما يهمش اللغات المحلية ويضعف استخدامها في التعليم، الإعلام، والتواصل الرقمي. ومع الوقت، قد تنكمش المساحة الحية لهذه اللغات، مما يهدد التراث الشفهي والقيم الثقافية المرتبطة بها.
-
فقدان الذاكرة المعرفية المحلية: الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بنقل اللغة، بل يختزن المعارف والقيم المضمنة فيها، ضعف التمثيل الرقمي للغات الإفريقية يعني أن معارف الأجداد، الأمثال الشعبية، والمفردات المرتبطة بالبيئة الإفريقية قد لا تجد طريقها إلى الأجيال القادمة عبر الأدوات الذكية.
-
تهميش المشاركة في الثورة الرقمية: عندما لا تدعم المنصات الذكية لغة المستخدم، يصبح الوصول إلى الخدمات الرقمية، التعليم الإلكتروني، أو التطبيقات المبتكرة مقيدًا، مما يعمق الفجوة بين المجتمعات الحضرية (المتقنة للغات العالمية) والمجتمعات الريفية أو المهمشة لغويًا.
-
تهديد التنوع الثقافي لصالح التجانس الرقمي: الذكاء الاصطناعي المهيمن بلغة أو ثقافة معينة يعيد إنتاج سرديات وقيم تلك الثقافة، على حساب التنوع المحلي. وهذا قد يؤدي إلى “تجانس ثقافي” حيث تصبح القيم والسلوكيات أكثر تماثلًا مع الثقافات المهيمنة عالميًا.
رابعًا: كيف يمكن الاستثمار في اللغات المحلية لتعزيز النهضة الثقافية الإفريقية؟
على الرغم من المخاطر التي تفرضها التحيزات اللغوية في الذكاء الاصطناعي على التنوع الثقافي الإفريقي، فإن المشهد لا يخلو من فرص استراتيجية يمكن أن تتحول إلى قوة دفع لنهضة ثقافية شاملة، شريطة تبني سياسات واضحة ودعم المبادرات المحلية والإقليمية لترسيخ حضور اللغات الإفريقية في الفضاء الرقمي، ويمكن تلخيص أبرز ملامح هذه الفرص فيما يلي:
-
إعادة إحياء اللغات المهددة بالاندثار: من خلال دمج اللغات المحلية في قواعد بيانات الذكاء الاصطناعي وتطوير نماذج معالجة اللغة الطبيعية الخاصة بها، يمكن تحويل الأدوات الذكية إلى منصات حفظ ونشر للغات التي تواجه خطر الاختفاء، وهذا الدمج لا يحافظ على البنية اللغوية فقط، بل يعيد إحياء الاستخدام اليومي لها في التعليم، الإعلام، والتواصل الاجتماعي.
-
نشر الأدب المحلي والمحتوى الثقافي عالميًا: دعم اللغات الإفريقية رقميًا يمكن من ترجمة وترويج الإنتاج الأدبي والفني المحلي لجمهور عالمي، ما يتيح للثقافة الإفريقية أن تكون جزءًا فاعلًا من المشهد الثقافي الدولي، كما يساهم ذلك في خلق سوق ثقافي جديد يفتح المجال أمام المبدعين الأفارقة للتفاعل والتبادل عبر الحدود.
-
تطوير مناهج تعليمية وتطبيقات تخدم الهوية الإفريقية: الاستثمار في تقنيات الذكاء الاصطناعي لدعم اللغات الإفريقية يمكن أن ينتج مواد تعليمية رقمية متقدمة، وألعابًا تعليمية، وتطبيقات تفاعلية تُدرس العلوم والمهارات بلغات محلية، مما يعزز الانتماء الثقافي ويربط الجيل الجديد بجذوره المعرفية، كما أن هذه الخطوة تقلل من الحواجز اللغوية أمام التحصيل العلمي، خاصة في المناطق الريفية والمجتمعات المهمشة.
-
تعزيز الاقتصاد الثقافي والابتكار المحلي: وجود بيئة رقمية غنية باللغات الإفريقية يخلق فرصًا اقتصادية جديدة في مجالات النشر الرقمي، تصميم التطبيقات، والتسويق الثقافي، مما يفتح الباب أمام مشاريع ناشئة قائمة على الإبداع المحلي.
-
إعادة التوازن في الفضاء الرقمي العالمي: إدراج اللغات الإفريقية في أنظمة الذكاء الاصطناعي يسهم في مقاومة هيمنة الخطاب والثقافة الأحادية، ويدعم التعددية الثقافية كقيمة أساسية في عالم مترابط رقميًا.
خامسًا: قصور الدول الإفريقية والتشريعات في حماية اللغات المحلية أمام الذكاء الاصطناعي
بالرغم من تزايد الوعي العالمي بأهمية التنوع اللغوي في البيئة الرقمية، إلا أن معظم الدول الإفريقية لا تزال متأخرة في وضع أطر تشريعية ومؤسسية تحافظ على لغاتها المحلية في عصر الذكاء الاصطناعي. فالتشريعات الإفريقية غالبًا لا تتضمن بنودًا واضحة تلزم الشركات التكنولوجية، سواء المحلية أو العالمية، بدمج اللغات الإفريقية في منتجاتها وخدماتها. وحتى الدول التي تعترف دستوريًا بالتعدد اللغوي، نادرًا ما تنجح في ترجمة النصوص الدستورية إلى سياسات تنفيذية فعّالة في المجال الرقمي.
يضاف إلى ذلك ضعف التمويل المخصص للمشاريع اللغوية الرقمية، إذ تعاني مبادرات جمع البيانات اللغوية وتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي باللغات المحلية من نقص شديد في الميزانيات، مما يجعلها تعتمد غالبًا على دعم منظمات غير حكومية أو مؤسسات أجنبية، وهو ما يهدد استدامتها ويحد من استقلاليتها، كما أن الجهود البحثية والرقمية في هذا المجال تتسم بالتشتت وضعف التنسيق الإقليمي، إذ تعمل المبادرات غالبًا بشكل متفرق على مستوى الدول أو حتى داخل الدولة الواحدة، ما يؤدي إلى تكرار الجهود وضياع فرص التكامل في تطوير موارد لغوية مشتركة.[7]
إلى جانب ذلك، تغفل الكثير من استراتيجيات التحول الرقمي في الدول الإفريقية إدماج مسألة حماية وتطوير اللغات المحلية كأولوية استراتيجية، إذ تركز بالأساس على البنية التحتية والاتصال بالإنترنت، دون النظر إلى البعد اللغوي باعتباره عنصرًا أساسيًا في الهوية الرقمية للقارة، كما أن ضعف الوعي السياسي بمخاطر التهميش اللغوي الرقمي يجعل العديد من صانعي القرار غير مدركين لحقيقة أن غياب هذه اللغات عن الفضاء الرقمي قد يؤدي على المدى الطويل إلى اندثارها، بما يحمله ذلك من خسارة للهوية الثقافية والمعرفة التقليدية المرتبطة بها.
وتتفاقم المشكلة في ظل غياب سياسات واضحة للشراكة مع القطاع الخاص، إذ لا توجد التزامات على شركات التكنولوجيا الكبرى أو الناشئة لدعم المحتوى الرقمي باللغات المحلية أو الاستثمار في أدوات المعالجة اللغوية الخاصة بها. ونتيجة لذلك، يظل السوق الرقمي الإفريقي رهينة لهيمنة اللغات العالمية الكبرى كالإنجليزية والفرنسية، مما يعمّق الفجوة اللغوية ويحد من قدرة اللغات المحلية على البقاء والانتشار في البيئة الرقمية.[8]
سادسًا: مسارات مقترحة لحماية اللغات الإفريقية في عصر الذكاء الاصطناعي
مع تسارع ثورة الذكاء الاصطناعي، تواجه اللغات الإفريقية خطر التهميش الرقمي، ما يستدعي تبني استراتيجية شاملة تدمج التشريعات، البحث العلمي، والبنية الرقمية لضمان بقاء هذه اللغات فاعلة في المستقبل.
على المستوى التشريعي والمؤسسي، يتعين على الدول الإفريقية سن قوانين واضحة تُلزم الشركات التكنولوجية، سواء المحلية أو العالمية، بدمج اللغات المحلية في منتجاتها وخدماتها الرقمية، مع وضع لوائح ومعايير موحدة عبر الاتحاد الإفريقي تحدد آليات جمع البيانات اللغوية وتضمن حمايتها من الاحتكار أو الاستخدام غير العادل، كما ينبغي إنشاء هيئات وطنية للذكاء الاصطناعي تكون مسؤولة عن دمج البعد اللغوي والثقافي في السياسات الرقمية الوطنية.
وفي مجال البحث والتطوير، يجب تخصيص ميزانيات مستقرة لتمويل مشاريع توثيق اللغات وبناء قواعد بيانات لغوية مفتوحة المصدر، إلى جانب دعم الجامعات والمراكز البحثية الإفريقية في تطوير أدوات المعالجة اللغوية الطبيعية للغات المحلية، كما يتعين توفير منح بحثية وتشجيع مسابقات الابتكار التي تستهدف تصميم تطبيقات تعليمية ومحتوى رقمي يعزز الهوية الإفريقية وينشرها عالميًا.[9]
وعلى صعيد البنية التحتية الرقمية، فإن بناء منصات رقمية مفتوحة لتجميع وتبادل الموارد اللغوية بين الدول الإفريقية يُعد خطوة أساسية، إذ يسهم في تحقيق التكامل وتجنب الازدواجية في الجهود، كما يجب تطوير تقنيات تحويل الكلام إلى نص، والترجمة الآلية، والمساعدات الصوتية باللغات الإفريقية، مع ضمان إتاحتها مجانًا أو بأسعار رمزية لزيادة استخدامها وانتشارها على نطاق واسع.
وفي إطار الشراكات الإقليمية والمجتمعية، ينبغي تشجيع التعاون بين الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والمجتمعات المحلية، لجمع البيانات اللغوية والتحقق من دقتها، ويدخل في ذلك دعم المبادرات الشعبية التي تعمل على توثيق التراث الشفهي والأدب المحلي بصيغ رقمية، إلى جانب إقامة تحالفات مع شركات التكنولوجيا العالمية لإطلاق مشاريع مشتركة تخدم اللغات الإفريقية وتروج لها على المستوى الدولي.
وفي مجال التوعية وبناء القدرات، يصبح من الضروري إطلاق حملات إعلامية لتعزيز وعي المواطنين بأهمية تمثيل لغاتهم في الذكاء الاصطناعي كجزء من حماية الهوية الثقافية، وتنظيم برامج تدريبية للشباب والمطورين المحليين في مجالات الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغات الطبيعية، كما يجب إدراج مساقات تعليمية عن التكنولوجيا واللغات في المناهج الدراسية لربط الجيل الجديد بالهوية اللغوية في العصر الرقمي.
وختاما يمكن القول.. يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة تاريخية وتحديًا وجوديًا للقارة الإفريقية، فهو قادر على دفع عجلة التنمية، وتعزيز الابتكار، وإعادة تشكيل الاقتصاد الرقمي، لكنه يحمل في طياته أيضًا مخاطر تهدد الهوية الثقافية والتنوع اللغوي إذا لم تُتخذ خطوات واعية لحمايتها، إن مستقبل إفريقيا في العالم الرقمي لن يُقاس فقط بمدى تبنيها للتكنولوجيا، بل بمدى قدرتها على صياغتها وإدارتها بما يعكس روحها الثقافية وتنوعها اللغوي، ويضمن استقلاليتها المعرفية والسياسية، ومن هذا المنطلق، يصبح الاستثمار في اللغات المحلية، وتطوير بنية تحتية رقمية شاملة، وصياغة سياسات تشريعية واستراتيجية متكاملة، ليس خيارًا ثانويًا، بل ضرورة أساسية لتحقيق نهضة ثقافية حقيقية، وضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة للتمكين وليس وسيلة لإعادة إنتاج التبعية والهيمنة في إفريقيا.