تسعى الدول الأوروبية إلى إعادة صياغة علاقتها مع القارة الإفريقية على نحو أكثر شمولية وندية، انطلاقًا من التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، والتحديات المشتركة مثل الهجرة، تغير المناخ، والأمن الإقليمي. وفي هذا السياق، أطلقت سويسرا استراتيجيتها الجديدة تجاه إفريقيا للفترة من 2025 إلى 2028، بهدف بناء شراكات متوازنة وداعمة للاستقرار والتنمية المستدامة.
ترتكز الاستراتيجية السويسرية على أربعة محاور رئيسية: السلام والأمن، التنمية الاقتصادية المستدامة، الحوكمة الرشيدة، والتعاون في القضايا العالمية مثل المناخ والطاقة والهجرة. وتعتمد في تنفيذها على مزيج من الدبلوماسية النشطة، ودعم المبادرات الإقليمية، وتعزيز الشراكات مع المنظمات الإفريقية، مع التركيز على مناطق استراتيجية مثل القرن الإفريقي، الساحل، والبحيرات العظمى، كما تتسم برؤية عملية تقوم على الحياد السياسي، والمرونة في الانخراط مع مختلف الفاعلين، سواء كانوا دولًا أو منظمات أو قطاعًا خاصًا.
بالنسبة لمصر، تمثل هذه الاستراتيجية فرصة استراتيجية لتعزيز دورها ضمن خريطة التعاون الإفريقي–الأوروبي، مستفيدة من موقعها الجغرافي وعضويتها الفاعلة في الاتحاد الإفريقي، وكذلك علاقاتها المتوازنة مع الشركاء الدوليين، كما تأتي هذه الدراسة في سياق اهتمام متزايد بصياغة رؤية مصرية لاستثمار الأدوات الدبلوماسية والتنموية التي تتيحها الاستراتيجيات الأوروبية، خاصة تلك التي تتسم بالحياد والمرونة مثل النموذج السويسري.
أولًا: قراءة في الاستراتيجية السويسرية تجاه إفريقيا (2025–2028)
تُعد الاستراتيجية السويسرية تجاه إفريقيا للفترة 2025–2028 وثيقة شاملة تعكس تحولاً في كيفية تعامل برن مع القارة الإفريقية، من مقاربة تنموية تقليدية إلى شراكة استراتيجية متكاملة، وتنطلق هذه الاستراتيجية من الاعتراف المتزايد بأهمية إفريقيا في النظام العالمي، ليس فقط كسوق اقتصادي ناشئ، بل أيضًا كفاعل جيوسياسي ومصدر للتأثير على التحديات العالمية مثل الهجرة، الأمن، التغير المناخي، والحوكمة، وفي هذا الإطار حددت الحكومة الفيدرالية السويسرية خمسة أهداف استراتيجية تمثل الإطار الناظم لعلاقاتها مع إفريقيا خلال فترة الاستراتيجية:
تعزيز السلام والأمن وحقوق الإنسان: تعمل الاستراتيجية على دعم عمليات الوساطة لحل النزاعات بشكل سلمي، كما تركز على بناء قدرات المجتمعات المحلية لتعزيز التماسك الاجتماعي، كما تهدف إلى حماية حقوق الإنسان من خلال تعزيز العدالة والمساواة.
تعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة: تسعى إلى تشجيع الابتكار والريادة في مختلف القطاعات الاقتصادية، مع دعم نمو القطاع الخاص لتعزيز فرص العمل، كما تهدف إلى توسيع التجارة بين سويسرا والدول الإفريقية، مما يعزز التنمية الاقتصادية المستدامة ويزيد من الاندماج في الأسواق العالمية.
مواجهة تغير المناخ وحماية البيئة: تستثمر الاستراتيجية في مشاريع الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، كما تشجع تبني ممارسات بيئية ذكية تساعد على التكيف مع التغيرات المناخية والحفاظ على التنوع البيولوجي، وتسعى إلى دعم إدارة الموارد الطبيعية بشكل مستدام لضمان حماية البيئة للأجيال القادمة.
دعم الحوكمة الرشيدة والمؤسسات الديمقراطية: تركز على مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في الأجهزة الحكومية، لضمان كفاءة الأداء المؤسسي، كما تهدف إلى تمكين الشباب والمرأة من المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاقتصادية، وتعزز من بناء مؤسسات ديمقراطية قوية تضمن العدالة وسيادة القانون.
تعزيز التعاون الإقليمي والتعددية: تعمل على دعم الاتحاد الإفريقي والتكتلات الإقليمية لتعزيز التعاون بين الدول الإفريقية، وتشجع على تنسيق السياسات لتحقيق التكامل الاقتصادي والتنمية المشتركة، كما تركز على التعاون في مجالات الأمن الإقليمي ومكافحة التحديات العابرة للحدود مثل الإرهاب والهجرة.
ثانيًا: الأدوات السويسرية لتنفيذ استراتيجيتها تجاه أفريقيا
تعتمد سويسرا على مجموعة من الآليات والأدوات الفعالة لتنفيذ استراتيجيتها في أفريقيا، مستفيدة من خبراتها الطويلة في التعاون الإنمائي والدبلوماسية متعدد الأطراف، وأبرزها ما يلي:
التدخل الغير مباشر لحل النزاعات: تتبنى سويسرا نهجًا مزدوجًا في التعامل مع قضايا الأمن الإفريقي من خلال تقديم دعم مباشر عبر تمويل مشاريع الوساطة وبناء السلام، ودعم غير مباشر عبر تعزيز العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في الدول الخارجة من النزاع، وتولي أهمية خاصة للمناطق المتأزمة مثل منطقة الساحل، القرن الإفريقي، والبحيرات العظمى، وتشمل التدخلات: (برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR)- تعزيز مشاركة المرأة في عمليات السلام- دعم البعثات الأممية لحفظ السلام ماديًا ولوجستيًا- تمويل برامج التماسك المجتمعي في مناطق النزاع).
التعاون الاقتصادي: تركز سويسرا على فتح قنوات للتعاون مع إفريقيا في مجالات الابتكار، الزراعة، التحول الرقمي، والخدمات المالية، وهي تسعى إلى تعزيز فرص الشركات السويسرية في إفريقيا، وفي الوقت نفسه دعم ريادة الأعمال الإفريقية من خلال التمويل الأصغر، وبرامج الدعم الفني، ومن الأدوات المستخدمة في هذا الإطار: (دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر مؤسسات تمويل سويسرية مثل “سويس كونتاكت”- تحسين الوصول إلى الأسواق من خلال اتفاقيات التجارة الحرة- تطوير شبكات النقل والتجارة في إفريقيا- دعم المهارات وريادة الأعمال التقنية).
تمويل مشروعات الطاقة والبيئة: تعترف سويسرا بأن إفريقيا من أكثر القارات تضررًا من التغير المناخي رغم مساهمتها الضئيلة في انبعاثات الكربون، لذلك تركز على تقديم حلول شاملة للمناطق المتأثرة عبر: (تمويل مشاريع الطاقة الشمسية والرياح- دعم برامج الزراعة الذكية والتكيّف مع التغير المناخي- إدارة الموارد المائية والحفاظ على التنوع البيولوجي- التعاون مع المبادرات الإفريقية مثل مبادرة الحزام الأخضر والسور الأخضر الكبير).
دعم الديمقراطية والحوكمة: تعزز سويسرا الحكم الرشيد ومكافحة الفساد عبر برامج مؤسسية لبناء القدرات الحكومية والمجتمعية، كما تعمل على خلق بيئة مواتية لمجتمع مدني نشط ومستقل، وتشمل هذه الجهود: (تطوير نظم العدالة والوصول المتكافئ للخدمات القضائية- دعم الانتخابات الحرة والنزيهة عبر مراقبة الانتخابات- تمكين المرأة من الوصول إلى مواقع صنع القرار- دعم حرية الإعلام والتنوع الثقافي).
التعاون المتعدد الأطراف: تعتبر سويسرا الاتحاد الإفريقي شريكًا أساسيًا، وتعمل على دعم قدراته المؤسسية والمالية، كما تتعاون مع التكتلات الإقليمية مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، والهيئة الحكومية للتنمية (الإيجاد)، والسوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (الكوميسا)، وتتبنى سويسرا نهجًا تشاركيًا مع هذه الكيانات لتجنب الازدواجية وتعزيز الفعالية، فهي تسهم في: (تمويل آليات الإنذار المبكر ومنع النزاعات- دعم برامج الاندماج الاقتصادي الإقليمي- التنسيق في مجالات الهجرة، مكافحة الإرهاب، والأمن الصحي).
ثالثًا: التوزيع الإقليمي لأولويات الاستراتيجية السويسرية في إفريقيا
تتبنى سويسرا مقاربة إقليمية متمايزة في إفريقيا، تقوم على توزيع جهودها التنموية والأمنية بما يتوافق مع أولويات وخصوصيات كل منطقة، بما يتيح لها تحقيق أكبر قدر من الفاعلية والتأثير في معالجة التحديات المحلية وتعزيز فرص التنمية والاستقرار.
الساحل الأفريقي: حيث تركز سويسرا على منطقة الساحل الأفريقي وبالأخص (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) من خلال برامج متكاملة تجمع بين تعزيز الأمن ومقاومة التطرف من جهة، ودعم التنمية الزراعية والرعاية الصحية الأساسية من جهة أخرى. كما تشمل مبادراتها تمويل مشاريع الأمن الغذائي، تدريب القوات الأمنية المحلية، وإعادة تأهيل البنى التحتية التعليمية في المناطق المتضررة من النزاعات.
شرق أفريقيا: تتركز الجهود السويسرية في هذه المنطقة على دول القرن الأفريقي ودول شرق أفريقيا خاصة (كينيا، أوغندا)، وتعتمد سويسرا على مزيج من الوساطة السياسية لدعم عمليات السلام، مع برامج تنموية طموحة في مجال الطاقة المتجددة والتحول الرقمي، كما تقدم دعماً لوجستياً وفنياً للبعثات الأممية العاملة في المنطقة.
وسط أفريقيا: في الكونغو الديمقراطية والدول المجاورة، تتبنى سويسرا استراتيجية ثلاثية الأبعاد: دعم الانتقال الديمقراطي عبر مراقبة الانتخابات، حماية المدنيين من خلال برامج حقوق الإنسان، وإعادة بناء المجتمعات المحلية بتدريب الكوادر القضائية وتأهيل النازحين، كما تشمل مشاريعها تطوير نظم العدالة الانتقالية وإعادة دمج المقاتلين السابقين.
جنوب أفريقيا: تستهدف سويسرا في هذه المنطقة (جنوب أفريقيا، موزمبيق، زيمبابوي) عبر تعزيز الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية، حيث تتركز برامجها على دعم ريادة الأعمال الرقمية، تطوير البنى التحتية الذكية، وتمويل مشاريع التكيف مع التغير المناخي، كما تقدم دعماً فنياً لتحسين مناخ الأعمال وجذب الاستثمارات السويسرية.
شمال أفريقيا: حيث تركز سويسرا في هذه المنطقة على التعاون مع مصر وتونس والمغرب، لاسيما في مجالات الحوكمة الرشيدة وإدارة الهجرة ومكافحة التطرف، وتشمل برامجها تطوير القدرات المؤسسية، دعم الإصلاحات القضائية، وبناء أنظمة فعالة لإدارة الحدود، كما تقدم مساعدات فنية في مجالات الطاقة النظيفة والإدارة المحلية.
رابعًا: الميزانية وآليات التمويل للاستراتيجية السويسرية في أفريقيا
تخصص سويسرا ميزانية سنوية ثابتة تقدر بنحو 525 مليون فرنك سويسري (ما يعادل ~580 مليون دولار) لدعم برامجها في القارة الأفريقية ويمكن حصر الهيئات الممولة الرئيسية في ثلاث قنوات رئيسية:
القنوات الحكومية الأساسية: وذلك مثل وزارة الخارجية الفيدرالية (FDFA) والتي تُشرف على البرامج السياسية والأمنية والإنسانية، والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC) والتي تركز على المشاريع التنموية طويلة الأجل، وأمانة الدولة للشؤون الاقتصادية (SECO) والتي تدعم الشراكات الاقتصادية والبنية التحتية.
شركاء التمويل الدوليون: تعتمد سويسرا على تحالفات استراتيجية مع منظمات الأمم المتحدة (مثل UNDP، UNHCR، وبرامج حفظ السلام)، الاتحاد الأوروبي عبر صناديق التنمية المشتركة، والبنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية.
المجتمع المدني: وذلك من خلال منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية لضمان الوصول المباشر للمجتمعات المستهدفة.
خامسًا: فرص مصر للاستفادة من الاستراتيجية السويسرية تجاه أفريقيا
توزع سويسرا جهودها التنموية والأمنية في أفريقيا وفق رؤية إقليمية تراعي أولويات كل منطقة، وهو ما يفتح أمام مصر – باعتبارها لاعبًا إقليميًا محوريًا وصاحبة اقتصاد قوي وقاعدة سكانية واسعة – فرصًا مهمة للاستفادة من هذه الأولويات في مجالات متعددة، أبرزها:
التعاون في إطار اللجنة الاقتصادية المشتركة: يمثل تأسيس اللجنة الاقتصادية المشتركة بين مصر وسويسرا في يناير 2025 فرصة استراتيجية لتعميق الشراكة الاقتصادية والتنموية بين البلدين، عبر منصة مؤسسية دائمة لتنسيق الجهود، وتبادل المعلومات، ومعالجة التحديات التي تواجه التجارة والاستثمار، ويمكن لمصر من خلال هذه اللجنة تعظيم الاستفادة عبر جذب الاستثمارات السويسرية في مجالات التصنيع والطاقة المتجددة والبنية التحتية، وتعميق الشراكات في التعليم الفني لتطوير المهارات وربطها بسوق العمل، وزيادة الصادرات المصرية إلى السوقين السويسرية والأوروبية وفق معايير جودة أعلى، فضلًا عن نقل التكنولوجيا والخبرات في مجالات الابتكار والصناعات عالية القيمة، ودعم التحول الأخضر عبر مشروعات مشتركة في الزراعة المستدامة وإدارة الموارد.
التعليم الفني: يشهد التعاون بين مصر وسويسرا في مجال التعليم الفني والتدريب المهني تطورًا ملحوظًا في إطار توجه الدولة المصرية نحو تعزيز التعليم القائم على المهارات وربطه باحتياجات سوق العمل المحلي والدولي، فقد استقبل وزير التربية والتعليم والتعليم الفني المصري، السفير السويسري بالقاهرة في 7 أغسطس 2025 لبحث سبل الشراكة، في ضوء خطة تطوير شاملة تستهدف تحويل نحو 1270 مدرسة فنية إلى مدارس تكنولوجية تطبيقية ومدارس تعليم مزدوج، لذلك يمكن أن تتضمن فرص الاستفادة المصرية في التعاون مع سويسرا في تطوير المناهج وفق المعايير الدولية، وتحديث البنية التحتية للمدارس الفنية، وتدريب المعلمين والمشرفين على أحدث أساليب التعليم التطبيقي، مع التوسع في برامج التعليم المزدوج التي تمزج بين الدراسة النظرية والتدريب العملي داخل المنشآت الصناعية والزراعية والفندقية، والاستفادة من الخبرة السويسرية في الصناعات الدقيقة، الزراعة الحديثة، وإدارة الفنادق، فضلًا عن دعم الحوكمة المؤسسية داخل المدارس الفنية واعتماد الشهادات على المستوى الدولي لزيادة تنافسية الخريجين.
التعاون في التغير المناخي: يمكن لمصر الاستفادة من التعاون مع سويسرا في مجال التغير المناخي عبر تعزيز مشروعات التحول الأخضر والابتكار البيئي، من خلال تنفيذ برامج مشتركة في الزراعة المستدامة، وإدارة الموارد المائية، وتحسين كفاءة الطاقة، ودعم التوسع في الطاقة المتجددة، إلى جانب نقل التكنولوجيا والخبرات السويسرية في مجالات الرصد البيئي والإنذار المبكر، بما يسهم في رفع قدرات مصر على التكيف مع التغيرات المناخية وتقليل الانبعاثات الكربونية، مع الاستفادة من التمويلات والمنح السويسرية الموجهة للمشروعات المناخية، وتتجسد نماذج هذا التعاون في مشروعات مثل برنامج الإدارة المستدامة للمياه في دلتا النيل الممول جزئيًا من سويسرا، والذي يهدف إلى ترشيد استخدام المياه وتحسين كفاءة الري، ودعم مبادرات الطاقة الشمسية والكتلة الحيوية في المجتمعات الريفية، بما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري، ومشروع النهوض بالإدارة البيئية للمدن المصرية بالتعاون مع الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، والذي يشمل تطوير أنظمة إدارة النفايات وتقليل الانبعاثات.
الترويج المشترك للسياحة المصرية: تمثل السياحة أحد المجالات الواعدة لتعزيز التعاون المصري–السويسري، حيث تمتلك سويسرا سوقًا سياحيًا عالي الإنفاق يهتم بالثقافة والتجارب الفريدة، وهو ما يتوافق مع المقومات السياحية المصرية ومن النماذج الملموسة لهذا التعاون ما بحثه وزير السياحة والآثار المصري مع السفيرة السويسرية في القاهرة في مايو 2024 بشأن تنفيذ حملات تسويقية مشتركة مع منظمي الرحلات السويسريين للترويج للمقصد السياحي المصري، وتشجيع الاستثمار الفندقي لزيادة الطاقة الاستيعابية للفنادق، ولتعظيم الاستفادة من هذا التعاون، يمكن لمصر عقد شراكات مع شركات الطيران ومنظمي الرحلات لزيادة الرحلات المباشرة بين البلدين، وتصميم منتجات سياحية مخصصة للسائح السويسري مثل برامج السياحة البيئية والغوص وسياحة المغامرات، واستثمار الفعاليات الثقافية المشتركة كأدوات تسويق قوية، بالإضافة إلى تعزيز التعاون في التدريب الفندقي والسياحي للاستفادة من المعايير السويسرية في الجودة والخدمة، بما يسهم في زيادة أعداد السياح وبناء صورة ذهنية قوية لمصر كسوق سياحي راقٍ ومتنوع أمام الجمهور السويسري.
بناء قدرات الدول الأفريقية: يمكن لمصر تعزيز التعاون مع سويسرا في مجالات متعددة، من أبرزها السلام والأمن والتنمية المستدامة، ويُعد من النماذج الملموسة لهذا التعاون الاتفاقية الموقعة بين مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام والحكومة السويسرية في عام 2024، والتي استهدفت بناء قدرات الدول الإفريقية في مكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين من خلال برامج تدريبية متخصصة، وتبادل الخبرات، ودعم صياغة السياسات الوطنية والإقليمية، وتمثل هذه الشراكة فرصة لمصر لتوسيع نطاق التدريب ليشمل كوادرها العاملة في المنافذ الحدودية وأجهزة إنفاذ القانون، واستضافة ورش عمل إقليمية بالقاهرة لتكريس دورها كمركز إفريقي للتدريب وبناء القدرات، وتطوير مناهج تدريبية مشتركة تُعتمد إقليميًا وتُترجم إلى لغات إفريقية متعددة، فضلًا عن تعزيز الربط بين التدريب والسياسات عبر إدماج المخرجات في خطط العمل الوطنية والإقليمية، وتوظيف الاتفاقية كأداة دبلوماسية لزيادة النفوذ المصري في ملفات الأمن الإنساني على المستويين الإفريقي والدولي.
سادسًا: التحديات المؤثرة على فرص التعاون المصري–السويسري في إطار الاستراتيجية السويسرية تجاه إفريقيا
يمكن تلخيص التحديات التي قد تواجه مسار التعاون المصري–السويسري في إطار الاستراتيجية السويسرية تجاه إفريقيا على النحو التالي:
تباين الأولويات: قد يظهر اختلاف نسبي بين الجانبين في بعض الملفات، خاصة ما يتعلق بقضايا الهجرة، مما قد يستلزم تعزيز الحوار لتقريب وجهات النظر.
تركيز جغرافي مختلف: تركيز سويسرا بشكل أكبر على مناطق الساحل والقرن الإفريقي قد يؤدي إلى محدودية نسبية في توجيه التمويل المباشر إلى مصر، ما يتطلب ابتكار مسارات للتعاون غير المباشر عبر مشاريع إقليمية.
حدة المنافسة الإقليمية: نشاط بعض الدول الإفريقية في استثمار الفرص الأوروبية قد يفرض على مصر تطوير آليات أكثر مرونة وسرعة في جذب الشراكات السويسرية.
إجراءات إدارية وتشريعية: بعض جوانب البيروقراطية أو طول فترة إقرار المشاريع قد تؤثر على سرعة تنفيذ الاستثمارات والمبادرات المشتركة، وهو ما يمكن تجاوزه عبر تحسين بيئة الأعمال وتبسيط الإجراءات.
سابعًا: مسارات العمل المقترحة لصانع القرار المصري لتعظيم الاستفادة من الاستراتيجية السويسرية تجاه إفريقيا
لمعالجة التحديات واستثمار الفرص التي تتيحها الاستراتيجية السويسرية تجاه إفريقيا، يمكن لصناع القرار في مصر النظر في تبني الخطوات العملية التالية:
على المستوى الاقتصادي والتجاري: يُعد جذب الاستثمارات السويسرية النوعية إلى قطاعات التكنولوجيا النظيفة، والصناعات الدوائية، وتصنيع المعدات الزراعية أحد المسارات المهمة، مع استثمار المنطقة الاقتصادية لقناة السويس كبوابة للأسواق الإفريقية، كما يمكن تعزيز الشراكات التجارية الثلاثية (مصر–سويسرا–إفريقيا) لزيادة صادرات المنتجات الزراعية والصناعات الغذائية المصرية. وفي الجانب المالي، يفتح التعاون مع البنوك السويسرية المجال لتقديم حلول مبتكرة لدعم التجارة البينية وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
على المستوى السياسي والدبلوماسي: يمكن لمصر تعميق التنسيق مع سويسرا في ملفات الأمن الإقليمي، خاصة ما يتعلق بالأزمات في السودان وليبيا والقرن الإفريقي، عبر عقد مشاورات منتظمة بين وزارتي الخارجية، كما يمكن إطلاق منصات حوار سياسي مشتركة في كل من مصر وسويسرا لبحث آليات بناء السلام والتسويات السياسية للنزاعات الإفريقية، بما يدعم الدور المصري في الوساطة الإقليمية، إضافة إلى ذلك، تمثل الخبرة السويسرية في مجال الوساطة والدبلوماسية الوقائية فرصة للاستفادة منها من خلال برامج تدريبية مشتركة تستهدف الدبلوماسيين والوسطاء المصريين.
على مستوى الأمن والحوكمة: يمثل تطوير برامج مكافحة غسل الأموال والجرائم المالية بدعم فني سويسري أداة لتعزيز شفافية النظام المالي المصري، كذلك يمكن إطلاق برامج تدريب متقدمة للقضاة وضباط الشرطة في مكافحة الجرائم العابرة للحدود، مثل الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، إضافة إلى تبادل الخبرات في مجالات الإدارة الرشيدة وإصلاح القطاع العام عبر ورش عمل مشتركة.
على المستوى التنموي والمناخي: يوفر التعاون المصري–السويسري فرصة لتنفيذ مشروعات مشتركة للطاقة المتجددة والزراعة الذكية بتمويل من سويسرا ومؤسسات التمويل الدولية، كما يمكن لمصر الانخراط في المبادرات المناخية السويسرية لتعزيز قدراتها في مواجهة التصحر وتحسين إدارة الموارد المائية، ويشمل التعاون أيضًا تطوير برامج التعليم الفني والتدريب المهني بالشراكة مع المعاهد السويسرية، خاصة في الفندقة والسياحة والهندسة الميكانيكية، إلى جانب دعم مشروعات التحول الرقمي والخدمات الحكومية الذكية بالتعاون مع شركات تكنولوجيا سويسرية.
وختامًا.. تمثل الاستراتيجية السويسرية تجاه إفريقيا (2025–2028) إطارًا يمكن لمصر من خلاله توسيع مجالات التعاون مع طرف أوروبي له حضور في القارة، ويعمل على تنفيذ برامج في مجالات التنمية والاستقرار، ويسمح هذا الإطار بإقامة علاقة مؤسسية تستند إلى المصالح المشتركة، بما يدعم دور مصر الإقليمي ويسهم في تعزيز قدرتها على التأثير في مسارات التطور داخل القارة، كما أن طبيعة تنفيذ البرامج ضمن هذه الاستراتيجية توفر فرصًا لمصر للتحرك المشترك وفق أولوياتها الوطنية، وتعكس هذه الاستراتيجية مقاربة عملية تدمج بين الأبعاد الاقتصادية والسياسية والتنموية، ما يفتح المجال أمام مصر للعمل على تطوير شراكات تلبي احتياجاتها التنموية وتدعم أهدافها في إفريقيا خلال المرحلة المقبلة.