في تطور لافت يعكس تحولًا نوعيًا في المقاربة الأمريكية تجاه الملف السوري، أعلنت الولايات المتحدة في 7 يوليو 2025 رفع “هيئة تحرير الشام” من قوائم التنظيمات الإرهابية، وذلك في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة برئاسة أحمد الشرع، ويأتي هذا القرار في إطار تحركات أمريكية متسارعة لإعادة الانخراط في الساحة السورية، من خلال دعم جهود إعادة الإعمار، وتشجيع مسار سياسي يعيد بناء مؤسسات الدولة وترتيب توازنات ما بعد الحرب.
ويُنظر إلى هذا التحول في السياسة الأمريكية بوصفه استجابة براجماتية للواقع الميداني المتغير، لا سيما في ظل تراجع النفوذ الإيراني، وتصاعد الحضور التركي بعد وصول حليف أنقرة إلى السلطة في دمشق. وضمن هذا السياق، برزت “هيئة تحرير الشام” كفاعل محوري أعاد تشكيل المشهد العسكري والسياسي في شمال غرب سوريا، بعد أن قادت الهجوم الحاسم ضد النظام السابق، وسعت إلى إعادة تقديم نفسها ككيان محلي منسلخ عن التنظيمات الجهادية العابرة للحدود.
وتعود جذور “هيئة تحرير الشام” إلى 28 يناير 2017، حين تأسست من اندماج عدد من الفصائل المسلحة، أبرزها “جبهة فتح الشام” التي كانت قد انفصلت عن تنظيم القاعدة في عام 2016. وعلى الرغم من تبنيها في بداياتها خطابًا سلفيًا جهاديًا، فإن الهيئة أعادت تموضعها لاحقًا كمجموعة تقاتل النظام السوري وتفرض سيطرتها التدريجية على محافظة إدلب ومناطق في شمال غرب البلاد.
وفي ديسمبر 2024، قادت الهيئة عملية عسكرية سريعة أدت إلى انهيار النظام، وتولى زعيمها أحمد الشرع (المعروف سابقًا بأبي محمد الجولاني) رئاسة الدولة، وأعقب ذلك إعلان حل الهيئة ودمج عناصرها في مؤسسات الدولة الرسمية، وهو ما مهد الطريق أمام الولايات المتحدة لإعادة تقييم وضعها القانوني وتصنيفها الدولي.
وفي هذا الإطار، يسعى هذا التقرير إلى تقديم قراءة تحليلية متعددة الأبعاد لقرار واشنطن رفع “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب، من خلال تحليل الدوافع السياسية والاستراتيجية الكامنة وراء هذا القرار، واستشراف التداعيات المحتملة على الأمن الإقليمي، وتوازنات القوى بين الفاعلين المحليين والدوليين في مرحلة ما بعد الأسد.
أولًا: الدوافع الأمريكية للقرار:
في ضوء التحولات الميدانية والسياسية التي شهدتها الساحة السورية عقب سقوط نظام الأسد، أعادت واشنطن تقييم علاقاتها مع الأطراف الفاعلة، وقررت تعديل موقفها من “هيئة تحرير الشام”، وفيما يلي أبرز الدوافع التي تفسّر هذا التحول في المقاربة الأمريكية:
إعادة الانخراط مع سوريا وتحديث نهج العقوبات: جاء القرار في إطار سعي واشنطن لإعادة الانخراط في الملف السوري عبر أدوات جديدة، وفي مقدمتها تخفيف العقوبات وتحديث لوائح التصنيف، بما يتيح تشجيع العملية السياسية الجديدة بقيادة الشرع، شريطة التزام حكومته بمحاربة الإرهاب وتحقيق المصالحة الوطنية.
تسهيل إعادة الإعمار وكسر العزلة الدولية: يُعد القرار تمهيدًا لفتح أبواب الاستثمار والمنظمات الدولية للمشاركة في إعادة إعمار سوريا، ويعكس استعداد واشنطن للعب دور فاعل في استقرار البلاد اقتصاديًا، وكسر عزلتها الدولية، بعيدًا عن مسارات النفوذ التركي.
تحول في التعامل مع التنظيمات الجهادية: يمثل القرار تحولًا استراتيجيًا في طريقة تعاطي واشنطن مع الجماعات الجهادية، عبر الانفتاح على الفصائل التي تبنت أجندة محلية ولم تعد تهدد المصالح الغربية، بما يسمح بتوظيفها في توازنات داخلية تخدم المصالح الأمريكية وتحد من نفوذ الخصوم.
تقليص الدور التركي:رغم النفوذ الكبير الذي تحظى به أنقرة في سوريا، وسعيها لتعزيزه من خلال دعم الشرع، فإن واشنطن اتخذت قرارها للتقارب المباشر مع الشرع دون وساطة تركية، في رسالة واضحة لأنقرة بأن الولايات المتحدة قادرة على النفاذ إلى الداخل السوري دون الحاجة إلى المرور عبرها، ما يُعد محاولة لكبح التمدد التركي وإعادة موازنة النفوذ على الأرض.
العودة إلى استراتيجية “الوكلاء المحليين“: انسجامًا مع توجه ترامب الرافض لـ”الحروب اللانهائية”، وسعيه لتقليص الإنفاق العسكري الخارجي، أعادت واشنطن تفعيل مقاربة “الوكلاء المحليين”، وترى في حكومة الشرع – التي تضم بقايا من الهيئة – شريكًا تكتيكيًا لمواجهة خصومها، لا سيما فلول تنظيم “داعش”.
التمييز بين “العدو الجهادي المحلي” و”الإرهاب العابر للحدود“:اعتمدت إدارة ترامب منذ يناير 2025 سياسة أكثر براجماتية في تعريف التهديدات الجهادية، وقامت بتمييز الجماعات ذات الطابع المحلي عن تلك التي تستهدف المصالح الغربية، وقد قدّم الشرع نفسه في السنوات الأخيرة كقائد محلي لا يعادي الغرب، وهو ما ساهم في إعادة النظر في تصنيف الهيئة.
ثانيًا: هل يهدد القرار مستقبل العلاقة بين واشنطن وقوات سوريا الديمقراطية؟
يطرح القرار الأمريكي برفع “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب إشكالًا استراتيجيًا في العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي كانت تمثل الشريك الأوثق لواشنطن في الحرب على تنظيم “داعش”، فهذه القوات ذات الغالبية الكردية لعبت دورًا محوريًا في تحقيق الانتصارات الميدانية شرق الفرات، وكانت جزءًا أساسيًا من استراتيجية “الوكلاء المحليين” التي اعتمدتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ 2015.
ومع انتقال واشنطن إلى سياسة إعادة الانخراط عبر حكومة أحمد الشرع – التي ورثت كوادر “هيئة تحرير الشام” – يبدو أن المعادلة بدأت تميل نحو تفضيل براجماتي لتحالفات جديدة في غرب سوريا، على حساب العلاقة التقليدية مع “قسد” في الشرق، وهذا التحول يدل على عدة مؤشرات:
فقدان التوازن الجيوسياسي شرق–غرب: تقارب واشنطن مع حكومة الشرع قد يفسر في عين “قسد” كإعادة توزيع للمكاسب على الأرض، لا سيما إذا ما اقترن بأي تخفيض للدعم العسكري أو غياب الضمانات السياسية الكردية في مستقبل سوريا، ويزيد ذلك من مخاوف الأكراد بشأن تكرار سيناريو “التخلي الأمريكي”، كما حدث في مناطق مثل عفرين ورأس العين سابقًا.
توتر العلاقات مع أنقرة وانعكاساته: تحاول واشنطن الموازنة بين تفاهمات تكتيكية مع الشرع (حليف أنقرة) وبين الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقة مع “قسد” (العدو التقليدي لتركيا)، لكن هذه الموازنة تبدو هشة، وقد تؤدي إلى انفراط العلاقة مع الأكراد إذا شعروا أن واشنطن لم تعد مستعدة لحمايتهم من التهديدات التركية أو من ضغوط الحكومة الجديدة في دمشق.
إعادة صياغة التحالفات الكردية: في حال تراجعت الثقة الكردية بواشنطن، قد تدفع “قسد” إلى البحث عن بدائل إقليمية أو دولية، سواء عبر روسيا أو حتى تقارب مشروط مع حكومة الشرع ذاتها، إذا ما أبدت الأخيرة استعدادًا لمنح الأكراد هامشًا إداريًا أو ثقافيًا محدودًا ضمن الدولة المركزية.
ثالثًا: التداعيات المحتملة:
رغم أن القرار الأمريكي يعكس توجهًا استراتيجيًا جديدًا، إلا أنه لا يخلو من تداعيات معقدة قد تطال الأمن الإقليمي، فيما يلي أبرز التداعيات المحتملة التي قد تنجم عن هذا القرار:
تشجيع جماعات مسلحة أخرى على التكيف: قد يشكل القرار الأمريكي سابقة مُلهمة لجماعات مسلحة في سوريا وليبيا والساحل الأفريقي، تدفعها لتبني خطاب سياسي مرن أو تغيير الأسماء أو إعلان الاعتدال مؤقتًا، بهدف كسر العزلة الدولية وإعادة تقديم نفسها كجهات شرعية.
قلق متزايد لدى حلفاء واشنطن العرب: يثير القرار مخاوف لدى دول عربية كبرى من أن يتحول القرار إلى نموذج يُستخدم لتبرير إعادة دمج جماعات متطرفة في الحياة السياسية، مما قد يهدد بتقويض الخطاب الجماعي العربي لمكافحة الإرهاب.
شرعنة النموذج الجهادي: يرسل القرار إشارات خطيرة إلى جماعات مثل “حسم” و”لواء الثورة” مفادها أن إعادة التقديم بصورة أكثر مرونة قد تفتح الطريق للاعتراف الدولي، ما يعزز محاولاتها لاختراق المجالين السياسي والإعلامي وتوسيع نشاطات التجنيد.
إعادة تنشيط الخلايا الإرهابية وشبكات العودة: يشكل القرار خطرًا أمنيًا مباشرًا، إذ قد يدفع بعض الجهاديين المصريين المرتبطين سابقًا بـ”تحرير الشام” للعودة إلى الداخل أو دول الجوار عبر شبكات تهريب، بما يعزز احتمالات تنشيط خلايا نائمة أو تأسيس بؤر عنقودية مدعومة خارجيًا.
خطر تشكيل تنظيمات جهادية جديدة:قد يؤدي إدماج الهيئة في المشهد السياسي إلى انشقاقات داخل صفوفها، ودفع العناصر الأكثر تشددًا إلى تشكيل تنظيمات جديدة أو الانضمام لـ”داعش”، ما يعيد تهديد الاستقرار المحلي والإقليمي ويعقد جهود إعادة الإعمار.
خاتمة:
يمثل قرار واشنطن برفع “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب تحولًا مفصليًا في مقاربتها للصراع السوري، وتعبيرًا صريحًا عن اعتمادها نهجًا براجماتيًا في التعامل مع الفاعلين المحليين، بما يتجاوز الاعتبارات العقائدية أو التصنيفات الأيديولوجية السابقة، ويبدو أن الولايات المتحدة اختارت أن تتعامل مع الوقائع الجديدة على الأرض – لا سيما صعود أحمد الشرع، وتراجع النفوذ الإيراني، وتصاعد الدور التركي – من منطلق إعادة التموضع لا المواجهة.
في هذا السياق، يبقى الرهان الأمريكي محفوفًا بالتعقيد، إذ إن تحييد هذه الجماعات على المدى القصير لا يضمن استقرارًا طويل الأمد، ما لم يُقرن بخطوات مؤسسية تضمن احتواء فائض القوة المسلحة، وإعادة دمج حقيقي في إطار وطني جامع، بعيدًا عن منطق الغلبة العسكرية أو الحسابات الخارجية، فالمعادلة الجديدة في سوريا قد تُنتج توازنات أكثر هشاشة مما تتصورها واشنطن، وتدفع نحو دورة جديدة من الفوضى، إذا ما فشلت القوى الدولية والإقليمية في ضبط إيقاع المرحلة الانتقالية ومنع ارتداد الجماعات المسلحة إلى أنماطها السابقة.