تُعد منطقة الساحل الإفريقي مسرحًا جيوسياسيًا بالغ الأهمية يشهد تنافسًا متسارعًا بين القوى الدولية. فخلال عام 2024، برز تراجع واضح في النفوذ الفرنسي التقليدي، مع سحب باريس لقواتها وتصاعد موجة الانقلابات العسكرية، في مقابل تنامي أدوار قوى أخرى مثل روسيا والصين وتركيا. وتنبع أهمية الساحل من موقعه الجغرافي الاستراتيجي الذي يربط بين شمال القارة وجنوبها، إلى جانب ثرائه بالموارد الطبيعية، كالنفط والغاز والذهب واليورانيوم.
وفي ظل إعادة تشكيل موازين القوى في هذه المنطقة، برزت أذربيجان – على الرغم من كونها خارج السياق الإفريقي التقليدي – كلاعب جديد يسعى إلى توظيف خبراته في مجالي الطاقة والتكنولوجيا لتعزيز حضوره في الساحل، وتكتسب دراسة الدور الأذربيجاني في هذه المنطقة أهمية خاصة لفهم ديناميكيات التحول نحو نظام دولي أكثر تعددية، حيث باتت القوى المتوسطة وغير الاستعمارية تتطلع إلى ملء الفراغ وبناء شراكات جديدة في القارة الإفريقية. يستعرض هذا التقدير ملامح التفاعل الأذربيجاني الراهن في الساحل الإفريقي، وأدواته السياسية والاقتصادية والأمنية، كما يحلل دوافع هذا الانخراط، ويستشرف اتجاهاته المستقبلية.
ملامح التفاعل الأذربيجاني الراهن:
يتسم التفاعل الأذربيجاني في منطقة الساحل الإفريقي بجملة من السمات التي تعكس توجهًا استراتيجيًا متصاعدًا نحو القارة، وتتجلى هذه الملامح في المحاور التالية:
الدبلوماسية والشراكات السياسية:انتهجت أذربيجان دبلوماسية نشطة تجاه دول الساحل من خلال إرسال مبعوثين رفيعي المستوى، كزيارة المبعوث الخاص للرئيس الأذربيجاني “التشين أمير بايوف” إلى مالي وبوركينا فاسو ولقائه برئيسيهما الانتقاليين، حيث جرت مناقشات حول التعاون في مجالات (الطاقة – التعدين – الخدمات العامة)، وتسعى باكو إلى إرساء آلية تشاور منتظمة مع حكومات الساحل لتعزيز التنسيق الثنائي، كما استفادت من رئاستها لحركة عدم الانحياز (2019–2023) لبناء شبكة علاقات مع أكثر من 50 دولة إفريقية، مؤكدة على نهج يحترم السيادة ويرفض الوصاية أو الإرث الاستعماري.
دعم قضايا التحرر الإفريقي: تتبنى أذربيجان خطابًا داعمًا لقضايا التحرر الإفريقي، حيث صرح الرئيس “إلهام علييف” عام 2024 بدعم بلاده الكامل لمساعي جزر القمر لاستعادة جزيرة مايوت من فرنسا، مؤكداً الوقوف مع الأقاليم التي لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية، كما أطلقت باكو “مجموعة مبادرة باكو” التي جمعت حركات مناهضة للاستعمار، ونظمت مؤتمرات دولية تروج لسردية تحررية مناهضة للنفوذ الأوروبي، وهذه المقاربة أكسبت أذربيجان تعاطفًا شعبيًا ورسميًا في الساحل، خاصة في ظل تنامي التيارات المناهضة للوجود الفرنسي في المنطقة.
التعاون الاقتصادي والطاقة: اعتمدت أذربيجان على خبرتها في قطاع الطاقة لتعزيز حضورها في إفريقيا، حيث توسعت شركة SOCAR الحكومية في عدة دول إفريقية، منها مصر والجزائر ونيجيريا وكينيا، وتجري محادثات للتوسع في دول الساحل كمالي والنيجر وبوركينا فاسو، كما تعمل على تصدير تقنياتها في تطوير البنية التحتية للطاقة، بما يشمل الوقود الأحفوري والطاقة المتجددة. وبصفتها مستضيفة مؤتمر المناخ العالمي COP29، قدمت خارطة طريق للطاقة النظيفة، تركز على الطاقة الشمسية والرياح، بما يتماشى مع أولويات دول الساحل في مواجهة تغير المناخ، كما تجري باكو مباحثات بشأن الاستثمار في التعدين في دول غنية بالموارد مثل النيجر ومالي وسيراليون.
التعاون الدفاعي والأمني: برزت أذربيجان كمصدر جديد للسلاح في إفريقيا، حيث ارتفعت صادراتها الدفاعية إلى القارة بنحو 70% خلال ثلاث سنوات، مستفيدة من خبراتها العسكرية، حيث أبدت دول الساحل كمالي والنيجر وتشاد اهتمامًا بالطائرات المسيرة الأذربيجانية، فيما وقعت الصومال اتفاقيات لشراء أسلحة خفيفة ومدرعات، وتدرس غينيا بيساو إرسال ضباط للتدريب في باكو. كما تضطلع وكالة ANAMA بدور إنساني في إزالة الألغام، حيث قدمت مساعدات تقنية لعدة دول بينها مالي وتشاد وأنجولا والكونغو الديمقراطية، ما أسهم في إعادة تأهيل الأراضي الزراعية وتحسين الأمان المجتمعي.
الأدوات الناعمة (التعليم والمساعدات الإنسانية): تعزز أذربيجان نفوذها عبر القوة الناعمة، من خلال برنامج منح “حيدر علييف” الدولية، الذي يوفر التعليم المجاني للطلاب الأفارقة في الجامعات الأذربيجانية، حيث التحق 365 طالبًا من 35 دولة في العام الدراسي 2023/2024. وتسهم مؤسسة “حيدر علييف” الخيرية ووكالة AIDA في تقديم مساعدات طبية وإنسانية لعدد من دول الساحل، تشمل إرسال معدات وأدوية وتدريب الأطباء الأفارقة، ما جعل أذربيجان ضمن أكبر 20 مانحًا للمساعدات الإنسانية في إفريقيا، وهو ما يعزز صورتها كشريك تنموي موثوق.
محفزات الانخراط في منطقة الساحل:
تسعى أذربيجان إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المتنوعة من وراء حضورها المتنامي في منطقة الساحل الإفريقي على وجه الخصوص، وفي القارة الإفريقية عامة، ويمكن إبراز أبرز هذه المحفزات على النحو التالي:
صرف الانتباه الفرنسي عن منطقة جنوب القوقاز: تستهدف الحكومة الأذربيجانية من خلال دعم الحركات المناهضة لفرنسا في إفريقيا، تقليص الدعم الفرنسي لأرمينيا، والعمل على عزلها دبلوماسيًا، بما يُفضي إلى إضعاف موقفها الجيوسياسي، ودفعها إلى تقديم تنازلات أكبر خلال أي مفاوضات مستقبلية، كما توظف باكو الخطاب المناهض للاستعمار الجديد – في أحد جوانبه – كأداة سياسية للرد على الانتقادات الموجهة إليها في البرلمان الأوروبي، وهي نقاشات تقودها أساسًا فرنسا وهولندا. ورغم أهمية هذا الهدف لدى صانع القرار في باكو، فلا ينبغي اختزال الحضور الأذربيجاني في منطقة الساحل على أنه موجه صراحة ضد فاعل دولي بعينه، بل يأتي ضمن منظومة أوسع من التحركات الدولية لإعادة رسم المشهد الجيوسياسي في المنطقة، في إطار سعي قوى مثل روسيا والصين وتركيا لتأسيس شراكات جديدة مع الحكومات العسكرية القائمة هناك. كما يعكس الانخراط الأذربيجاني استجابة لمتغيرات إقليمية، أبرزها رغبة دول الساحل في تنويع شراكاتها الاستراتيجية.
توثيق التعاون الأمني والدفاعي مع دول الساحل: تسعى أذربيجان إلى فتح أسواق جديدة لمنتجاتها الدفاعية في دول الساحل، معتمدة على قدراتها العسكرية المتقدمة، لا سيما في مجال الطائرات المسيرة، والأسلحة التكتيكية، والمعدات الخفيفة، خاصة في ظل ميل العديد من دولها إلى تنويع مصادر تسليحها بعيدًا عن الشروط السياسية المصاحبة للأسلحة الغربية، وتسعى باكو إلى تقديم نفسها كنموذج ناجح للتحديث العسكري، عبر تصدير خبراتها ومنتجاتها إلى دول تعمل على إعادة بناء هياكلها الدفاعية، ويتسق هذا التوجه مع سردية أذربيجان حول دعم “الاستقلال الدفاعي” في دول الجنوب العالمي، بما يعزز مكانتها كفاعل بديل وموثوق في سوق الأمن الإفريقي.
الاستفادة من الفرص الاقتصادية الواعدة في إفريقيا:يأتي التحرك الأذربيجاني مدفوعًا بإدراك متزايد لإمكانات الاقتصادات الإفريقية الناشئة، فبحسب بيانات بنك التنمية الإفريقي، نما اقتصاد القارة بنسبة 4.3% في عام 2023، ومن المتوقع أن يتجاوز عدد سكانها 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050، ما يجعلها من أسرع المناطق نموًا في العالم. وتتمتع إفريقيا بثروات طبيعية هائلة، إذ تضم 30% من احتياطيات المعادن العالمية، و12% من احتياطيات النفط، و40% من ذهب العالم، فضلًا عن امتلاكها 60% من الأراضي الزراعية غير المستغلة عالميًا. في ضوء هذه المعطيات، تسعى أذربيجان إلى ترسيخ حضور اقتصادي وتنموي داخل القارة من خلال تعزيز الشراكات وإطلاق مشاريع استثمارية.
تعزيز القوة الناعمة الأذربيجانية:تشكل مبادرات التبادل الثقافي والأكاديمي إحدى أدوات أذربيجان لبناء نفوذ ناعم في الساحل، إذ تسهم برامج المنح الدراسية في إنشاء شبكة من الخريجين الذين يحتفظون بعلاقات مهنية وشخصية دائمة مع المؤسسات الأذربيجانية، حيث تُظهر الدراسات أن نحو 80% من الحاصلين على هذه المنح يواصلون التعاون بعد التخرج، مما يمهد لتوسيع الشراكات الاقتصادية والأمنية على المدى الطويل، ويعكس رغبة باكو في ترسيخ صورتها كشريك تنموي مستدام لا مجرد مانح مؤقت. كما تسعى أذربيجان إلى تقديم نموذج حضاري يعكس ثقافتها الإسلامية والانفتاح الثقافي، من خلال فعاليات مثل “أيام الثقافة الأذربيجانية” في النيجر وتشاد، والتي تبرز الفنون والموسيقى والأفلام الوطنية، وتؤكد على الروابط الحضارية المشتركة. كما تبرز استضافة باكو للمؤتمرات الدولية الداعية إلى التعاون والتنمية، حرصها على تقديم نفسها كدولة ذات حضور إيجابي وفاعل في القارة.
الاتجاهات المستقبلية للدور الأذربيجاني في الساحل:
في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية، يتجه الدور الأذربيجاني في الساحل الإفريقي نحو مرحلة جديدة من الانخراط المدروس، مع اعتماد مزيج من الأدوات التقليدية والمبتكرة لتعزيز الشراكات وتحقيق المصالح الاستراتيجية، ويمكن تلخيص أبرز الاتجاهات المستقبلية فيما يلي:
دبلوماسية المناخ والتنمية المستدامة: من المرجح أن تواصل أذربيجان توظيف قضايا المناخ لتعزيز حضورها في الساحل، مستثمرة نجاح استضافتها لمؤتمر COP29، وقد تبرز مساهماتها في دعم مشاريع الطاقة المتجددة مثل مزارع الشمس والرياح في مالي والنيجر، ومبادرات التشجير ومكافحة التصحر على غرار “السور الأخضر العظيم”، كما يُتوقع أن تُطلق برامج تنموية في مجالات المياه والزراعة الذكية، إلى جانب استثمار نفوذها في حركة عدم الانحياز والمحافل الدولية لحشد الدعم لقضايا الساحل البيئية، بما يعزز صورتها كشريك إنساني وتنموي فاعل.
الشراكات الدفاعية وتصدير التكنولوجيا العسكرية: ستسعى باكو إلى تعميق تعاونها الأمني في الساحل من خلال توسيع صادراتها من المسيرات والمعدات الخفيفة، وتوقيع اتفاقيات تشمل التدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وقد تعرض أذربيجان إنشاء منشآت لصيانة المعدات، مما يعزز الاعتماد التقني المتبادل. وفي ظل تراجع الاعتماد على الموردين الغربيين، تُعد المنتجات الدفاعية الأذربيجانية خيارًا عمليًا، لكن باكو ستوازن بين دعم قدرات شركائها الأمنية وتفادي إثارة حساسيات إقليمية أو سباقات تسلح غير محسوبة.
نشر الحوكمة الرقمية ومكافحة الفساد: يمثل تصدير نموذج “أسان خدمة” (ASAN xidmət) للحكومة الرقمية التي أثبتت فعاليتها في مكافحة الفساد وتسهيل المعاملات الحكومية، أداة فعالة لترسيخ النفوذ الأذربيجاني، خاصة في دول مثل مالي وبوركينا فاسو. وستركز باكو على رقمنة الخدمات العامة لتقليل الفساد وتعزيز كفاءة الإدارة، مما يعزز شرعية الحكومات الانتقالية في دول الساحل، كما يمكن أن تقدم برامج تدريب للكوادر الإفريقية في أمن المعلومات والتشريعات الرقمية، مستفيدة من خبرتها في إصلاح القطاع العام. نجاح هذه التجربة قد يدفع دولًا إفريقية أخرى إلى طلب الدعم من باكو، مما يعزز مكانتها في القارة كشريك تقني موثوق.
التموضع كفاعل متوازن في بيئة جيوسياسية معقدة: في ظل التنافس الدولي في الساحل، ستحرص باكو على الحفاظ على سياسة خارجية مرنة، تتجنب الصدام المباشر مع القوى الكبرى، وتسعى إلى التنسيق غير المباشر مع لاعبين كروسيا والصين. وبفضل علاقاتها الجيدة مع قوى متباينة – مثل أنقرة وتل أبيب من جهة، وموسكو وطهران من جهة أخرى – قد تطرح أذربيجان نفسها كوسيط أو جسر تواصل بين الأطراف، خاصة في ملفات مثل الربط الاقتصادي بين إفريقيا وأوراسيا.
خاتمة:
تكشف الاتجاهات الراهنة والمستقبلية أن دور أذربيجان في الساحل الإفريقي مرشح للنمو ضمن إطار شراكات متعددة المستويات، وإذا ما استمرت باكو في اتباع نهجها المرن والبراجماتي – جامعًا بين الدعم التنموي والمناصرة السياسية والتعاون الأمني – فإنها قد تتحول خلال سنوات قليلة إلى رقم صعب في معادلة الساحل، وهذا يحمل في طياته فرصًا وتحديات على حد سواء، فرص لدول الساحل لاستثمار هذا الزخم في تحقيق أجنداتها الوطنية بعيدةً عن الإملاءات التقليدية، وتحديات للمنافسين التقليديين للتكيف مع واقع فقدان الاحتكار، لكن الأهم من ذلك هو ما ستجنيه شعوب الساحل نفسها؛ ففي حال تمكنت دول الساحل من الاستفادة من التنافس الدولي الجديد – الذي تمثل أذربيجان جزءًا حيويًا منه – في تطوير اقتصادات بلدانهم وتعزيز أمنها، فقد يصبح الساحل نموذجًا لكيفية تحويل تعدد الشراكات نحو تحقيق مكاسب تنموية وأمنية. وأذربيجان، بما تبديه من فهم واحترام لأولويات شركائها الأفارقة، أمامها فرصة لترسيخ إرث إيجابي في هذه المنطقة المضطربة، إرث قوامه شراكات مربحة للطرفين وتنمية مستدامة وأمن مشترك.