تتصاعد حدة التوتر بين إثيوبيا وإريتريا، وسط مؤشرات على احتمالية اندلاع نزاع مسلح جديد بين البلدين، في سياق إقليمي مضطرب يتسم بتشابك الأزمات السياسية والأمنية، ويأتي هذا التصعيد في وقت تواجه فيه إثيوبيا أزمات داخلية عميقة، تشمل انقسامات عرقية وصراعات مسلحة، ما يضفي بعدًا أكثر تعقيدًا على المشهد الإقليمي. وفي ظل هذه التطورات، تبرز مجموعة من المخاطر التي قد تنعكس بشكل مباشر على الأمن القومي المصري، نظراً لحساسية منطقة القرن الأفريقي بالنسبة للمصالح الاستراتيجية المصرية، لا سيما ما يتعلق بأمن البحر الأحمر، واستقرار دول الجوار الإقليمي. ومن ثم، أصبح من الضروري أن تتحرك الدولة المصرية عبر إجراءات استباقية متعددة المسارات، تهدف إلى احتواء التداعيات المحتملة للتصعيد، والحفاظ على التوازن الإقليمي، وتعزيز دورها كقوة فاعلة في محيطها الحيوي.
خلفية وسياق تصاعد التوتر الإثيوبي–الإريتري:
تعود جذور الصراع بين إثيوبيا وإريتريا إلى فترة ما قبل استقلال إريتريا عام 1993، حين كانت إريتريا جزءًا من إثيوبيا تتمتع بحكم ذاتي محدود. بعد إعلان استقلال إريتريا، استمرت الخلافات بين البلدين بسبب النزاعات الحدودية، لا سيما في منطقة “بادمي”، مما أدى إلى توتر مستمر بين الجانبين. وفي الفترة من 1998 إلى 2000، اندلعت حرب دامية بين إثيوبيا وإريتريا على خلفية تلك النزاعات الإقليمية، وأسفرت عن خسائر بشرية ومادية كبيرة، قبل أن يتم توقيع اتفاق سلام عام 2018 بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، في محاولة لإنهاء سنوات من العداء والتوتر. ومع ذلك، عادت العلاقات إلى حالة من التوتر منذ عام 2022، مع تصاعد الاتهامات المتبادلة بين الجانبين. فقد اتهمت إثيوبيا أسمرة، بالتعاون مع فصيل من “جبهة تحرير تيجراي” التي هيمنت على المشهد السياسي الإثيوبي لعقود، بالتحضير لشن حرب. في المقابل، نفى الجانب الإريتري هذه الاتهامات، واعتبرها محاولات إثيوبية لتبرير صراعاتها الداخلية، كما زاد التوتر بعد توقيع إثيوبيا لاتفاق “بريتوريا للسلام” مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، دون التنسيق مع إريتريا التي كانت حليفًا في الصراع، بالإضافة إلى إعلان إثيوبيا رغبتها في الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر، وهو ما اعتبرته إريتريا تهديدًا لمصالحها في ميناء “عصب”.
المؤشرات الداعمة لاحتمالية اندلاع مواجهة عسكرية بين إثيوبيا وإريتريا:
هناك عدة مؤشرات تشير إلى احتمالية اندلاع مواجهة عسكرية بين إثيوبيا وإريتريا خلال الفترة القادمة، أبرزها:
تصاعد الخطابات العدائية بين مسؤولي إثيوبيا وإريتريا: شهدت الفترة الأخيرة تصعيدًا واضحًا في الخطابات العدائية بين مسؤولين إثيوبيين وإريتريين، مما يعكس توترًا دبلوماسيًا متزايدًا قد يفضي إلى تصعيد أمني وعسكري. في هذا السياق، أثارت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد جدلاً واسعًا، خاصة تصريحاته في مقابلة مع التلفزيون الإثيوبي في سبتمبر 2025، حيث أكد أن إثيوبيا فقدت سواحلها البحرية قبل نحو ثلاثة عقود بعد انفصال إريتريا، واصفًا ذلك بـ«الخطأ التاريخي» الذي يجب تصحيحه. هذا التصريح اعتُبر مؤشرًا خطيرًا على عدم اعتراف أديس أبابا بسيادة إريتريا واستقلالها، وفتح الباب أمام تكهنات برغبة إثيوبيا في استعادة منافذ بحرية بالقوة. وردت السفيرة الإريترية لدى الأمم المتحدة، صوفيا تيسفامريام، على هذه التصريحات بالقول إن «الطموح وحده لا يكفي لإعادة رسم الخرائط»، ووصفت تصريحات آبي أحمد بأنها «أسطوانة مكررة» تغذي النزاعات، مؤكدة تمسك إريتريا بالحدود المعترف بها دولياً والتزامات القانون الدولي.
تنامي رغبة إثيوبيا في التوسع وإحياء الإمبراطورية الإثيوبية والوصول إلى منافذ بحرية: تعكس تصريحات ومواقف قيادات إثيوبية، خاصة رئيس الوزراء آبي أحمد، رغبة واضحة في استعادة النفوذ الإقليمي لإثيوبيا من خلال إعادة إحياء دورها الإمبراطوري السابق، والذي كان يشمل الوصول إلى منافذ بحرية على البحر الأحمر قبل استقلال إريتريا. وتُظهر هذه الرغبة السعي للسيطرة على موانئ استراتيجية مثل ميناء عصب الإريتري، مما يشير إلى هدف توسعي يتجاوز الاعتراف بالحدود الدولية الراهنة. ويشكل هذا الطموح دافعًا قويًا لتصعيد النزاع، حيث قد تلجأ إثيوبيا إلى خيار عسكري لاستعادة هذه المنافذ البحرية الحيوية، ما يزيد من احتمالية اندلاع صراع مسلح مع إريتريا، التي تعتبر هذه الموانئ جزءًا لا يتجزأ من سيادتها الوطنية، ويعكس هذا المؤشر أيضًا إصرار إثيوبيا على استخدام القوة كأداة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، مما يرفع من حدة التوتر ويقلص فرص الحلول السلمية.
تزايد النزاعات الحدودية الإثيوبية الإريترية مع تعزيزات عسكرية وحشد قوات على الحدود: تشهد الحدود بين إثيوبيا وإريتريا توترات مستمرة تتمثل في نزاعات إقليمية متكررة، مصحوبة بحشود وتعزيزات عسكرية كبيرة من كلا الطرفين، وهذا التصعيد العسكري يشمل تمركز قوات وأسلحة ثقيلة قرب الخطوط الحدودية، مما يعكس حالة تأهب عالية واستعداد محتمل لأي مواجهة عسكرية، ويُعتبر هذا الحشد العسكري وتبادل الاستفزازات على الحدود مؤشراً واضحاً على احتمالية اندلاع صراع مسلح مباشر، حيث أن تواجد القوات بكثافة قرب مناطق النزاع يزيد من مخاطر الاشتباكات غير المقصودة أو المتعمدة، كما يعكس الاستعداد العسكري توجهًا تصعيديًا من كلا الطرفين، ويقلل من فرص الحلول الدبلوماسية السلمية، خاصة في ظل غياب قنوات حوار فعالة.
إتهام أديس بابا لإريتريا وفصيل من فصائل التيجراي بالاستعداد لشن حرب على إثيوبيا: قدمت الحكومة الإثيوبية في الأمم المتحدة اتهامات رسمية لأسمرة وفصيل مسلح من «جبهة تحرير تيغراي» وذلك في أكتوبر 2025 بدعم وتمويل وتحضير مجموعات مسلحة تستعد لشن هجمات على إثيوبيا، مما يعكس تصاعد الصراع الإقليمي وتداخل النزاعات الداخلية الإثيوبية مع التوترات الإقليمية، وتُعد هذه الاتهامات جزءًا من الحرب الدبلوماسية والسياسية بين إثيوبيا وإريتريا، وتبرز حجم التوترات المتشابكة بين الأطراف، ويشير هذا الاتهام إلى وجود تحالفات مسلحة عابرة للحدود تزيد من تعقيد الوضع الأمني وتوسع نطاق الصراع المحتمل، كما يعكس احتمال نشوب مواجهات عسكرية ليست فقط بين الدولتين، بل تشمل دعم فصائل مسلحة داخل إثيوبيا، مما يرفع من خطر التصعيد العسكري ويؤدي إلى تفجير نزاعات متعددة الجبهات. كذلك، فإن توجيه هذه الاتهامات على مستوى الأمم المتحدة يشير إلى أن الدولتين تستعدان لتحشيد الدعم الدولي، ما قد يزيد من حدة الأزمة.
دعم إريتريا لقوات انفصالية في الداخل الإثيوبي: تتهم الحكومة الإثيوبية إريتريا بدعم جماعات مسلحة انفصالية داخل إثيوبيا، مثل «جبهة تحرير تيجراي» ومليشيات «فانو» الأمهرية، من خلال توفير التمويل والتدريب والغطاء السياسي. في المقابل، تُتهم إثيوبيا بدعم قوى المعارضة الإريترية بهدف زعزعة الاستقرار في إريتريا والتأثير على سياساتها الداخلية، ويعكس هذا التبادل في الدعم حالة من الصراع بالوكالة بين الدولتين، حيث تستخدم كل منهما الفصائل المسلحة كأدوات لتحقيق أهداف سياسية وأمنية عبر الحدود، ويعزز هذا الدعم المتبادل من احتمالية تصعيد الصراع إلى مواجهة شاملة أو طويلة الأمد، إذ يزيد من انعدام الاستقرار الداخلي في كلا البلدين ويطيل أمد النزاع، كما يوسع من رقعة الصراع ليشمل فصائل مسلحة متعددة، ما يصعب من عملية التهدئة ويزيد من احتمالات اندلاع مواجهات مباشرة بين القوات النظامية في حال تفاقم التوترات، كما يعكس هذا المؤشر أن الصراع تجاوز الحدود التقليدية بين الدولتين ليصبح نزاعًا إقليميًا معقدًا.
تحليل الفرص والمخاطر من منظور الأمن القومي المصري:
يشير التوتر الراهن في العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا إلى وجود مزيج من الفرص والمخاطر التي تمس الأمن القومي المصري، ويمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:
أولًا: الفرص
تعزيز الدور المصري في منطقة القرن الإفريقي من خلال توسيع نطاق التعاون العسكري والاستخباراتي مع إريتريا، بما يسهم في ترسيخ الوجود الاستراتيجي المصري على البحر الأحمر، ويُمكن من متابعة ورصد التحركات الإقليمية ذات الصلة بشكل أكثر فاعلية، بما يضمن حماية المصالح القومية المصرية في محيطها الحيوي.
تشكيل تحالف إقليمي يضم مصر والدول المعنية باستقرار القرن الإفريقي، بهدف مواجهة التوسع الإثيوبي ودعم الموقف المصري إقليميًا ودوليًا، مع تعزيز القوة التفاوضية الجماعية تجاه التهديدات المحتملة.
يمكن أن تُوظف الحرب المحتملة كفرصة لمصر لتسليط الضوء على مخاطر السياسات الإثيوبية بشكل عام، ولا سيما تلك المتعلقة بسد النهضة وتأثيرها على الأمن المائي المصري، وقد تسهم هذه الظروف في تعزيز التأييد الدولي للموقف المصري، وتحفيز ضغوط سياسية ودبلوماسية على إثيوبيا للالتزام بالاتفاقيات الدولية المنظمة لتقاسم مياه النيل.
ثانيًا: المخاطر
احتمالية أن يُلقي توقيع مصر وإريتريا على اتفاقية دفاع مشترك عبئًا على مصر، حيث ستُطالب بتقديم دعم عسكري وأمني واسع لإريتريا، مما يزيد الضغط على الموارد المصرية في ظل الأزمات الاقتصادية والتحديات المالية التي تواجهها البلاد حاليًا، فضلاً عن ما سيترتب على ذلك من تعقيد إضافي في الأزمة مع إثيوبيا وتصاعد التوترات الإقليمية
تأزم الوضع في إثيوبيا وإريتريا قد يؤدي إلى انتقال التوترات إلى الحدود السودانية المصرية، خصوصًا مع تعقيد الأوضاع الأمنية في السودان، ما قد يهدد استقرار الحدود الجنوبية لمصر.
إمكانية استغلال أطراف خارجية للوضع لتعزيز نفوذها ضد مصر، حيث أن الصراع المحتمل قد يفتح الباب أمام تدخل قوى إقليمية ودولية تسعى لتعزيز نفوذها في القرن الإفريقي على حساب المصالح المصرية، مما يزيد من تعقيد الموقف الأمني والسياسي.
السيناريوهات المحتملة لاندلاع مواجهة عسكرية بين إثيوبيا وإريتريا:
ينطلق هذا السيناريو من تصاعد التوتر بين إثيوبيا وإريتريا إلى اشتباكات عسكرية متقطعة، حول مناطق حدودية متنازع عليها مثل منطقة “بادمي”، إلا أنه لن تصل هذه المواجهات إلى حرب شاملة، ويعتبر هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا نظرًا لـ :
رغبة كلا الدولتين في عدم الانخراط في حرب عسكرية شاملة في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تواجه كلًا منهما، وإرث الحرب الحدودية السابقة، مما يجعل الطرفين أكثر حذرًا من الانزلاق إلى مواجهة جديدة.
مساعي الدولتين استغلال الصراع الحدودي كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية ولصرف الانتباه عن المشاكل الداخلية كما أنه لا تزال هناك مناطق حدودية متنازع عليها بينهما.
القوات المسلحة لكلا البلدين ليست في أفضل حالاتها من حيث الجاهزية أو التسليح بعد سنوات من النزاعات الداخلية (خاصة إثيوبيا)، ما يجعل التصعيد المحدود أكثر واقعية من الحرب الشاملة.
تكرار الحشود العسكرية دون اندلاع حرب فعلية حيث تشير التقارير إلى حشود وتعزيزات عسكرية على الحدود، لكنها لم تصل إلى مرحلة إطلاق عمليات عسكرية شاملة، ما يعكس نمطًا من “الردع المتبادل” أو التصعيد التكتيكي.
السيناريو الثاني: وساطة أحد القوى الإقليمية بين إثيوبيا وإريتريا (الأقل ترجيحًا):
يشير هذا السيناريو إلى تدخل أحد الأطراف الإقليمية ويرجح في هذا الإطار أن تقوم تركيا بالوساطة بين الطرفين كما قد يكون للسعودية دور في هذه الوساطة (رعت توقيع اتفاق سلام بين الدولتين في 2018) ويبرر حدوث هذا السيناريو مساعي أبي أحمد عدم الانخراط في أي حروب جديدة لا سيما بعد حربه مع التيجراي والعمل على تصفية أزماته مع جيرانه، وذلك لعرقلة أي دور مصري محتمل في دول حوض النيل.
المسارات المقترحة لصانع القرار المصري:
دعم التنمية الاقتصادية في إريتريا عبر استثمارات ومشاريع تنموية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي للحكومة الإريترية، مما يقلل من احتمالية التصعيد ويزيد من علاقات التعاون مع مصر.
رفع الجهود الدبلوماسية مع الاتحاد الأفريقي والمنظمات الدولية لتفعيل دور الوساطة الإقليمية والدولية، ومنع تفاقم الصراع الذي قد يؤثر سلباً على استقرار المنطقة ومصالح مصر الحيوية.
دعم القدرات الأمنية والإدارية في إريتريا عبر برامج تدريب مشتركة وبناء القدرات، مع تعزيز التعاون الاستخباراتي والمعلوماتي مع إرتيريا لمتابعة النشاط العسكري الإثيوبي على الحدود.
تنفيذ برامج تدريب عسكري مشترك بين مصر وإريتريا، لرفع مستوى التنسيق العسكري والاستعداد للتهديدات المشتركة.
الاستعداد لتجهيز خطة طوارئ في حال اندلاع مواجهة عسكرية بين إثيوبيا وإريتريا، وامتداد النزاع إلى البحر الأحمر أو تدخل أطراف خارجية، مع إعداد غرف عمليات مشتركة مع الدول المطلة على البحر الأحمر.