يشهد جنوب لبنان في نوفمبر 2025 موجة متجددة من التصعيد العسكري الإسرائيلي، بدأت بإرسال رسائل تحذيرية ضمن “تهيئة البيئة العملياتية” قبل أن تتطور إلى ضربات جوية مكثفة استهدفت مواقع لحزب الله في النبطية وصور، بدعوى منعه من إعادة ترميم قدراته، ويأتي هذا التصعيد بالتزامن مع اقتراب مرور عام على اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في 27 نوفمبر 2024، في توقيت ترى فيه إسرائيل فرصة لإعادة اختبار معادلات الردع.
وتعكس هذه التحركات مقاربة إسرائيلية تقوم على استثمار نتائج حرب غزة وتراجع الضغوط الدولية لإعادة هندسة ميزان القوة على الجبهة اللبنانية، عبر فرض خطوط اشتباك أكثر صرامة وتقييد حركة حزب الله جنوب الليطاني. وفي المقابل، يرفض كل من الحكومة اللبنانية والحزب الضغوط الإسرائيلية، ما أدى إلى توسع نطاق الاشتباك ليطال حتى دوريات “اليونيفيل” في انتهاك لقرار 1701. وتحمل هذه التطورات تداعيات إقليمية محتملة، إذ قد يفضي استمرار التصعيد إلى مواجهة أوسع تمتد تأثيراتها إلى دول المنطقة، وفي مقدمتها مصر التي ترى في استقرار لبنان جزءًا من منظومة الأمن الإقليمي، ما يجعل متابعة هذا التصعيد أمرًا وثيق الصلة بالأمن القومي المصري.
أولاً: خلفيات التصعيد الإسرائيلي الراهن
تتأسس خلفيات التصعيد الإسرائيلي في جنوب لبنان على تفاعل معقد بين التطورات العسكرية والسياسية الإقليمية والدولية، فمنذ التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة في أكتوبر 2025، شرعت إسرائيل في إعادة توجيه ثقلها الاستراتيجي نحو الجبهة الشمالية باعتبارها الحلقة الأكثر حساسية في مرحلة ما بعد الحرب. وفي مطلع نوفمبر الجاري، شنت تل أبيب سلسلة ضربات جوية واسعة بدعوى استهداف بنى تحتية تابعة لحزب الله، تزامنت مع رسائل سياسية وعسكرية تحذر من احتمال خوض «جولة قتال كبيرة»، ويعكس هذا التوجه سعي إسرائيل إلى فرض معادلة جديدة تقوم على رفع مستوى الردع ميدانيًا، بالتوازي مع ضغوط أميركية وغربية متصاعدة لدفع الدولة اللبنانية إلى إعادة انتشار قواتها جنوبًا، وإحياء مشاريع سابقة تتعلق بإقامة منطقة منزوعة السلاح حتى نهر الليطاني.
استراتيجياً، تنطلق تل أبيب من قناعة بأن حرب غزة أعادت تشكيل معادلات الردع في المنطقة، وأن الفراغ العملياتي النسبي بعد وقف القتال يمنحها فرصة لإعادة صياغة المشهد الأمني على حدودها الشمالية، وتعتبر أن تثبيت توازنات جديدة في لبنان يُعد امتداداً لـ«مراكمة مكاسب الحرب»، من خلال منع حزب الله من استعادة أي بنية عسكرية تسمح له بإعادة فرض معادلات ردع مقابلة. وفي المقابل، يبدو الحزب ملتزماً حتى الآن بسياسة ردع دفاعية، ترتكز على رفع الجهوزية وتعزيز القدرة على امتصاص الضربات دون الانجرار إلى مواجهة شاملة ما لم تُفرض عليه.
إقليميًا، ساهم تراجع التوترات المباشرة على الساحة السورية، في تحويل الاهتمام نحو لبنان، لكن التطور الأكثر تأثيراً يتمثل في تعثر مسار التفاوض حول الملف النووي الإيراني، ما أعاد تنشيط الصراع غير المباشر بين إسرائيل وإيران، وجعل الساحة اللبنانية إحدى أدوات الضغط المركزية في هذه المعادلة، كما ساهمت إعادة تموضع بعض القوى الإقليمية في تعزيز ديناميكيات التصعيد، في ظل تنافس على ملء الفراغات الأمنية على أكثر من جبهة.
دولياً، تكشف التحركات الأميركية عن مستوى غير مسبوق من الضغوط الرامية إلى إعادة هيكلة المشهد الأمني في لبنان، سواء عبر الدفع باتجاه الحد من نفوذ حزب الله، أو من خلال استخدام أدوات سياسية واقتصادية لدفع الدولة اللبنانية إلى تبني مقاربة أمنية أكثر توافقاً مع الرؤية الأميركية–الإسرائيلية، وقد جاء تعليق زيارة قائد الجيش اللبناني، رودولف هيكل، إلى واشنطن وإلغاء لقاءات رسمية كانت مقررة له، ليجسد رسالة واضحة تؤكد رغبة الإدارة الأميركية في إعادة تعريف دور الجيش اللبناني ضمن ترتيبات الجنوب والأمن الحدودي.
ثانيًا: الدوافع الرئيسية للتصعيد الإسرائيلي
الدوافع الأمنية والاستراتيجية: تتحرك إسرائيل ضمن نهج استباقي يستهدف تعطيل عملية إعادة بناء القدرات العسكرية لحزب الله، ومنع الحزب من استعادة زخمه الهجومي، ورغم عدم رغبتها في التورط بحرب واسعة، تعمل تل أبيب على رفع كلفة أي محاولة لتعويض الخسائر أو ترميم القدرات، وإعادة ضبط خطوط الاشتباك بما يعزز موقعها على الجبهة الشمالية، مدعومة بغطاء سياسي وعسكري أميركي يمنحها حرية حركة محسوبة، وتستند هذه المقاربة إلى تقديرات تفيد بأن حزب الله يعمل على ترميم وحداته الهجومية، خصوصًا «قوة الرضوان»، بالتوازي مع جهود إيرانية لتعزيز المخزون الصاروخي في لبنان، ما يجعل الشمال – وفق الرؤية الإسرائيلية – ساحة التهديد الأكثر حساسية، لذا تضع إسرائيل كبح تنامي القدرات العسكرية للحزب في صدارة أهدافها منعًا لتغيرات قد تقيد قدرتها على الردع أو تمنح الحزب مساحة أوسع لفرض معادلات جديدة.
الأبعاد السياسية الداخلية الإسرائيلية: يلعب المشهد الداخلي الإسرائيلي دورًا مباشرًا في تغذية الاتجاه نحو التصعيد، إذ تواجه حكومة نتنياهو ضغوطًا سياسية وشعبية متزايدة على خلفية أداء الحرب على غزة وما تلاها، وتراجع الثقة بالحكومة، وتفاقم الأزمات الداخلية المرتبطة بالتحقيقات والانقسامات، ما يدفعها لاستخدام الجبهة اللبنانية كأداة لاستعادة صورة القوة وتماسك الائتلاف، ويحقق التصعيد أهدافًا عدة منها تعزيز خطاب الردع، وتوحيد القوى اليمينية والدينية داخل الحكومة، ودفع واشنطن إلى موقف أكثر تشددًا تجاه إيران عبر تعزيز إبراز ارتباط حزب الله بمشروعها الإقليمي. وفي هذا الإطار، تعتمد الحكومة نهج «التصعيد المُدار» الذي يسمح بضربات محدودة تمنع أي تسوية قد تُضعف موقفها السياسي والأمني.
الارتباط بالملف النووي الإيراني والدعم الأميركي: يتقاطع التصعيد جنوب لبنان مع تصاعد التوتر حول البرنامج النووي الإيراني بعد تعثر المفاوضات وعودة العقوبات، ما يدفع إسرائيل إلى استغلال اللحظة للضغط على طهران عبر استهداف حزب الله، وتجد تل أبيب في البيئة الراهنة فرصة لتقويض شبكات التمويل والتسليح للحزب، خاصة بعد إعلان مسؤولين أميركيين أن إيران حولت ما يقرب من مليار دولار للحزب هذا العام رغم العقوبات. وفي هذا الإطار، تحظى إسرائيل بدعم أميركي سياسي ولوجستي واضح يشمل التنسيق العسكري والضغط على الحكومة والجيش اللبنانيين لإعادة الانتشار جنوبًا، والدفع نحو ترتيبات أمنية تتماشى مع الرؤية الأميركية–الإسرائيلية. ومع ذلك، تسعى واشنطن إلى منع انزلاق التصعيد إلى حرب واسعة قد تهدد الاستقرار الإقليمي، ما يجعل دعمها عاملاً محركًا للتصعيد وفي الوقت نفسه أداة لضبط حدوده.
ثالثًا: تفاعلات الأطراف الفاعلة تجاه التطورات الراهنة
تتفاعل الأطراف الرئيسية في لبنان وخارجه ضمن مشهد شديد التعقيد، يتداخل فيه البعد العسكري مع المسارات السياسية والدبلوماسية، ويمكن قراءة سلوك اللاعبين الأساسيين على النحو الآتي:
حزب الله وتثبيت معادلة الردع وصياغة خطوط الاشتباك: يتعامل حزب الله مع التصعيد الراهن من موقع “الممسك بمعادلة الردع”، رافضًا أي ترتيبات يمكن أن تمس بسلاحه أو تُدرج ضمن مقايضات سياسية مرتبطة بالوضع الداخلي اللبناني أو بالمفاوضات الإقليمية، ويجمع الحزب بين سياسة «ضبط النفس» العلنية وبين جهود هادئة لإعادة تطوير بعض بنيته العسكرية في الجنوب، مع التأكيد المتكرر على أن تحركاته ذات طبيعة دفاعية تهدف إلى منع إسرائيل من تغيير قواعد الاشتباك أو فرض ترتيبات جديدة جنوب الليطاني، ويسعى الحزب إلى الحفاظ على توازن دقيق يسمح له بالردع دون الانجرار إلى مواجهة شاملة، مع إبقاء خطوط الاشتباك تحت سيطرته التكتيكية.
الدولة اللبنانية وإدارة السيادة تحت ضغط خارجي متصاعد: تحاول الحكومة اللبنانية تثبيت مبدأ “حصر السلاح بيد الدولة”، إلا أن هذا التوجه يصطدم بإشكاليات بنيوية تتعلق بتوازنات الداخل وبالارتباط العضوي بين سلاح حزب الله ومعادلات الردع مع إسرائيل، وتواجه بيروت ضغوطًا أميركية وإسرائيلية متزامنة تدفعها نحو إعادة انتشار الجيش في الجنوب وتفعيل استراتيجية «بسط السيادة»، وهو ما يثير مخاوف من استخدام هذا الشعار كغطاء لشرعنة ضربات إسرائيلية جديدة. ورغم ذلك، تؤكد الدولة اللبنانية أن معالجة ملف الحزب تحتاج إلى مقاربة سياسية داخلية وإقليمية لا يمكن فرضها بالقوة أو وفق إيقاع الضغوط الخارجية.
الجيش اللبناني وتحديات تثبيت الاستقرار في بيئة عمليات معقدة: يتصدر الجيش اللبناني مهمة تنفيذ القرار 1701 عبر تعزيز انتشاره جنوب الليطاني والقيام بدوريات مشتركة مع «اليونيفيل» لإزالة بعض المظاهر العسكرية، إلا أن قدرته على تنفيذ التفويض الدولي تتأثر بعوامل عدة، منها الاستهداف الإسرائيلي لمناطق انتشاره، وانخفاض الجاهزية بسبب محدودية الموارد، وتوتر العلاقة مع واشنطن عقب تصريحات رسمية لقائد الجيش وصفت إسرائيل بـ“العدو”، ويسعى الجيش إلى الحفاظ على حياده داخل المشهد السياسي الداخلي، محذرًا من محاولات زجه في معادلات تتجاوز دوره التقليدي، وقد تضعه في مواجهة مباشرة غير مرغوبة مع أي طرف داخلي أو خارجي.
اليونيفيل وحدود التفويض الدولي أمام ديناميات التصعيد: تواجه بعثة «اليونيفيل» تحديات متصاعدة مع استمرار الغارات الإسرائيلية وارتفاع احتمالات الاحتكاك الميداني، وقد أدانت البعثة الانتهاكات المتكررة للقرار 1701، محذرة من أن اتساع نطاق التصعيد قد يضعف قدرتها على تنفيذ مهامها، خاصة بعد اضطرارها للانسحاب من بعض المواقع الحدودية لدواع أمنية، ويؤدي هذا التراجع إلى خلق فراغ يمكن أن تستثمره أطراف متعددة لفرض ترتيبات أحادية الجانب، ما يضع المجتمع الدولي أمام اختبار صعب يتعلق بفعالية آليات حفظ السلام وحدود تأثيرها في بيئة شديدة التقلب.
مصر ودبلوماسية الاحتواء ومنع الانزلاق نحو صراع إقليمي واسع: تنظر مصر إلى التصعيد في جنوب لبنان باعتباره تهديدًا مباشرًا لمنظومة الأمن الإقليمي وملف الاستقرار في المنطقة، وقد أكدت تضامنها مع لبنان، محذرة من تداعيات إقليمية خطيرة قد يصعب احتواؤها، وتتحرك الدبلوماسية المصرية عبر مسار مزدوج يشمل دعم الالتزام بالقرار 1701 ووقف شامل لإطلاق النار، إضافة إلى جهود وساطة أمنية، أبرزها زيارة مدير المخابرات العامة اللواء حسن رشاد إلى بيروت، ويتيح موقع مصر الإقليمي وقدرتها على التواصل مع الأطراف كافة دورًا محوريًا في احتواء التوتر ومنع انزلاق المنطقة إلى صراع أوسع.
الولايات المتحدة والدول الغربية بين دعم إسرائيل وضبط حدود المواجهة: تنظر الولايات المتحدة إلى الجنوب اللبناني ضمن مقاربة أشمل تستهدف كبح نفوذ حزب الله وإعادة تشكيل البيئة الأمنية في لبنان بما يتسق مع متطلبات ما تسميه «الاستقرار الإقليمي»، وتضغط واشنطن على بيروت لتشديد الرقابة على أنشطة الحزب، وتنسق بشكل وثيق مع إسرائيل في العمليات والضغط الميداني، إلا أن هذا الدعم يجري في إطار محدود، إذ تبدي الإدارة الأمريكية حذرًا من انزلاق الوضع إلى مواجهة واسعة قد تهدد مصالحها في المنطقة. أما الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، فتتبنى موقفًا أكثر تحفظًا يركز على وقف التصعيد واحترام القرار 1701، مع التحذير من استهداف المدنيين وتفاقم الوضع الإنساني في الجنوب.
رابعًا: التداعيات المحتملة
التداعيات على لبنان: يدخل لبنان مرحلة بالغة الدقة مع استمرار التصعيد في الجنوب، إذ يهدد القصف المتكرر والاشتباكات الحدودية بتقويض قدرة الدولة على إدارة مناطق المواجهة، وخلق فراغات أمنية تتوسع تدريجيًا في ظل محدودية إمكانات الحكومة والجيش، كما يتسبب الدمار المتراكم في البلدات الجنوبية في موجات نزوح داخلي تُعمق الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وتزيد من تهميش مؤسسات الدولة في مناطق التماس، كذلك يعيد التصعيد إحياء الجدل الداخلي حول دور «السلاح» ومعادلات الردع، ما يعيد إحياء جدل السيادة وشرعية القوة داخل البنية السياسية اللبنانية، ومع ارتفاع احتمالات توسع العمليات العسكرية، يواجه لبنان خطر انزلاقه إلى لحظة انفجار جديدة قد تُعيد إنتاج دوائر العنف السابقة، وتضع وحدة كيانه السياسي واستقراره المؤسسي أمام اختبار وجودي، بينما تزداد قابلية الجنوب للتحول إلى ساحة صراع إقليمي مفتوح.
التداعيات على الأمن الإقليمي: يشكل الجنوب اللبناني بؤرة ارتكاز داخل بيئة إقليمية مشبعة بالتوترات، إذ إن تحول الاشتباكات المحدودة إلى مواجهة واسعة قد يفتح الباب أمام صراع متعدد الجبهات بين إسرائيل وحلفائها من جهة، وإيران ومحورها من جهة أخرى. ومثل هذا السيناريو سيضرب منظومة التفاهمات الهشة التي تنظم توازن القوى في الشرق الأوسط، ويدفع المنطقة نحو ديناميكية صراعية مفتوحة، كما يهدد التصعيد بإنتاج موجات نزوح جديدة نحو سوريا والأردن، ما يفاقم الضغط على دول الجوار ويخلق مساحات سيولة أمنية قابلة لاستغلالها من قبل جماعات مسلحة وفاعلين غير دوليين. وفي ظل تدخل دولي متزايد لإدارة الأزمة، قد نشهد إعادة رسم خرائط النفوذ الإقليمي، خصوصًا في ظل التنافس على موارد الطاقة في شرق المتوسط وارتباط الأزمة بالتطورات الجارية على صعيد البرنامج النووي الإيراني. وبالتالي، فإن أي انفجار لبناني–إسرائيلي لن يبقى محصورًا داخل الساحة اللبنانية، بل سيشكل شرارة لإعادة تفجير التوازنات الإقليمية في لحظة تتسم بتصاعد سباق التسلح وتداخل المصالح الدولية.
التداعيات على الأمن القومي المصري: تنظر مصر إلى التصعيد في لبنان بوصفه تهديدًا مباشرًا لدوائر أمنها القومي، فعلى المستوى الأمني، يثير توسيع نطاق التصعيد في لبنان مخاوف مصرية من تداعياته المباشرة على جبهة غزة، إذ قد يدفع انشغال إسرائيل في الشمال إلى تعليق التزاماتها المتعلقة بالمراحل اللاحقة لاتفاق وقف إطلاق النار في القطاع، أو حتى عودة القتال مجددًا إذا انهارت التفاهمات القائمة، ويعني ذلك احتمال تفجر الأوضاع داخل غزة بصورة أوسع، الأمر الذي قد يعيد إنتاج الضغوط الأمنية على الدولة المصرية، سواء عند الحدود أو عبر سيناريوهات النزوح القسري ومحاولات التسلل، وهي تطورات تتعامل معها القاهرة بحساسية بالغة نظرًا لتداعياتها المحتملة على الأمن الداخلي والاستقرار الإقليمي. كما يبرز خطر إعادة تموضع التنظيمات المتطرفة داخل الفراغات الأمنية التي يخلفها التصعيد الإقليمي، ما قد يرتد على الداخل المصري. أما سياسيًا، فإن انشغال الأطراف الدولية بالصراع اللبناني قد يحد من قدرة مصر على قيادة المراحل التالية في ملف غزة، سواء ما يتعلق بالتهدئة أو إعادة الإعمار أو ضبط مسار المفاوضات. أما في البعد الاقتصادي، تواجه مصر تحديات مرتبطة بأمن الطاقة، إذ تعتمد بصورة متزايدة على الغاز الإسرائيلي للاستهلاك المحلي وإعادة التصدير، وقد سبق لإسرائيل أن أوقفت إمدادات الغاز إلى مصر خلال مواجهتها الأخيرة مع إيران، ما وضع ضغطًا على شبكة الكهرباء ورفع كلفة تأمين الطاقة. وبالتالي، فإن أي تعطل جديد في تدفقات الغاز أو في منشآت شرق المتوسط سيشكل عبئًا إضافيًا على الاقتصاد المصري.
خامسًا: السيناريوهات المتوقعة
التصعيد المحدود وإبقاء الاشتباك تحت السيطرة (الأكثر ترجيحاً): يرجح أن تستمر إسرائيل في اعتماد نمط «التصعيد المحسوب» عبر تنفيذ ضربات جوية دقيقة تستهدف قدرات حزب الله دون الانزلاق إلى حرب شاملة، مستندة إلى دعم سياسي وعسكري أميركي يهدف إلى الضغط باتجاه إعادة صياغة الترتيبات الأمنية جنوب الليطاني. وفي المقابل، سيحرص حزب الله على ردود فعل محدودة تحفظ توازن الردع دون فتح الباب أمام مواجهة واسعة، مع إبقاء هامش محدود للردع المتبادل، ويظل احتمال الانزلاق قائمًا نتيجة خطأ تقديري أو حادث ميداني غير محسوب، إلا أن وجود خطوط اتصال دبلوماسية وأمنية بين أطراف متعددة يجعل هذا السيناريو قابلاً للاحتواء خلال الأشهر المقبلة، خاصة في ظل خشية جميع الأطراف من كلفة الحرب الشاملة.
التصعيد المتدرج واتساع نطاق العمليات (محتمل): يتقدم هذا السيناريو في حال اتجهت إسرائيل إلى توسيع نطاق عملياتها العسكرية ليشمل مناطق خارج حدود الاشتباك التقليدية، بما في ذلك استهداف طرق الإمداد اللوجستية أو مواقع تُعد جزءًا من البنية العسكرية الخلفية لحزب الله. ومع كل ضربة إضافية، يزداد احتمال رفع الحزب لسقف الرد، سواء عبر إطلاق صواريخ، أو تنفيذ عمليات ميدانية أشد كثافة في الجنوب، وقد يشهد لبنان اضطرابات داخلية أو مواجهات مفتوحة إذا فشلت المساعي الدبلوماسية في احتواء التصعيد، خصوصًا إذا اتخذ أي طرف خطوة نوعية مثل استهداف قيادات بارزة، أو إقدام إسرائيل على إعادة انتشار عسكري جنوب الليطاني، ورغم قابلية هذا السيناريو للتحقق حال تعثر إدارة التصعيد، فإن كلفته السياسية والإنسانية تجعل الأطراف أكثر حذرًا تجاه الانزلاق التدريجي إلى مواجهة واسعة.
الحرب الشاملة وانهيار منظومة الردع (مستبعد): يُعد هذا السيناريو مستبعدًا لكنه الأكثر خطورة، إذ يفترض انزلاق الطرفين إلى مواجهة واسعة تشمل ضربات إسرائيلية مكثفة وعمليات برية في العمق اللبناني، يقابلها حزب الله بإطلاق آلاف الصواريخ وتحريك جبهات مساندة في الإقليم، يتحقق هذا السيناريو في حال فقد الطرفان السيطرة على مسار التصعيد، أو إذا حصل تطور نوعي يدفع أحد الجانبين إلى خيار “المواجهة الحاسمة”، ويعد هذا السيناريو الأكثر تهديدًا لمصالح دول الشرق الأوسط، بما في ذلك أمن الطاقة، واستقرار الحدود، ما يجعله أخطر الاحتمالات على الأمن القومي المصري.
سادسًا: مسارات تحرك لصناع القرار في لبنان ومصر
استناداً إلى السيناريوهات الثلاثة والتداعيات المحتملة على المستويات اللبنانية والإقليمية والمصرية، تبدو الحاجة ملحة لاعتماد مقاربة متعددة الأبعاد، بما يسمح بإدارة المخاطر واحتواء التصعيد وتحصين البيئة الاستراتيجية لكلا البلدين.
1- الإجراءات الدبلوماسية:
تكثيف التنسيق اللبناني–المصري عبر قنوات اتصال مباشرة، مع قيام القاهرة بتعزيز إيفاد مسؤولين رفيعي المستوى إلى بيروت لتأكيد الدعم السياسي والمؤسسي، خصوصًا للجيش اللبناني.
تفعيل قنوات التأثير المصرية مع واشنطن وباريس لشرح خطورة استمرار التصعيد، والدفع نحو موقف دولي أكثر صرامة لوقف الغارات الإسرائيلية وتثبيت وقف إطلاق النار.
دعوة القاهرة وبيروت لعقد جلسة طارئة للجامعة العربية لإصدار موقف عربي واضح يطالب بضمانات دولية لوقف الاعتداءات.
دعوة مصر لإنشاء لجنة عربية–أوروبية مشتركة تُعنى بالملف اللبناني، تتولى متابعة تنفيذ القرار 1701 وتنسيق المواقف داخل مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي.
دعم لبنان، عبر رعاية مصرية، في إطلاق مسار حوار إقليمي منضبط يضم القوى ذات الصلة، بما في ذلك إيران، لخفض مستوى التوتر ومنع انزلاق لبنان إلى ساحة صراع إقليمي مفتوح.
إدراج الملف اللبناني ضمن تصور أوسع لـ«سلام إقليمي متدرج» في المنطقة، مع اضطلاع مصر بدور قيادي في إحياء مبادرات تسوية شاملة.
معالجة الدولة اللبنانية ملف السلاح غير الشرعي عبر إطار زمني واضح بضمانات دولية، مقابل التزام دولي حقيقي بإعادة إعمار لبنان وتعزيز حقه في الأمن والتنمية.
دفع الدول العربية نحو عقد مؤتمرات دولية مخصصة لإعادة الإعمار، شريطة احترام القرارات الدولية وسيادة الدولة اللبنانية.
2- الإجراءات العسكرية والأمنية:
تأمين دعم عربي عاجل لتعزيز قدرة الجيش اللبناني على الصمود في بيئة عمليات معقدة، من خلال تزويده بأنظمة مراقبة واستشعار وإنذار مبكر.
تعزيز التنسيق الأمني الثلاثي بين مصر ولبنان ودول الجوار لمراقبة أي تحركات لعناصر متطرفة قد تستغل السيولة الأمنية.
توسيع الجيش اللبناني لنطاق التعاون العسكري–الأمني عبر برامج تدريب مشتركة تهدف لرفع الجاهزية في مواجهة الهجمات المحدودة والصواريخ والعمليات الميدانية المعقدة.
بحث إمكانية نشر مراقبين عسكريين عرب ضمن إطار قانوني عربي مشترك، بما يعزز مصداقية ترتيبات وقف النار.
تطوير بنية أمنية لبنانية أكثر تماسكًا، عبر بناء منظومة دفاع جوي متدرجة وقادرة على اعتراض التهديدات الأساسية، ضمن برامج تمويل وتعاون دولية مستدامة.
3- الإجراءات الإنسانية والاجتماعية:
إعداد الحكومة اللبنانية لخطط طوارئ مشتركة لإدارة موجات نزوح داخلية محتملة من الجنوب، مع تجهيز مراكز إيواء وتوفير خدمات أساسية عاجلة (صحة، غذاء، مياه، دعم نفسي).
تحريك المنظمات الإغاثية المصرية لمسار المساعدات الإنسانية واللوجستية بصورة عاجلة للمناطق المتضررة جراء التصعيد الإسرائيلي.
الانتقال من إدارة الأزمة إلى إدارة التعافي عبر تنسيق عمل المنظمات الإنسانية مثل الهلال الأحمر والصليب الأحمر، لإعادة تأهيل البنية التحتية الأساسية في المناطق الحدودية (الكهرباء، الصحة، المدارس).
دمج الحكومة اللبنانية، للجنوب اللبناني في الدورة الاقتصادية الوطنية والعربية عبر برامج تنموية تستهدف الزراعة والصناعات الصغيرة والمشاريع الساحلية–السياحية.
تشجيع استثمارات عربية مشتركة بدعم مصري، وربط الجنوب بمشاريع تنمية أوسع في المنطقة، بما يقلل من احتمالات تحوله إلى بيئة حاضنة للتطرف أو السلاح المنفلت.