بعد توليه السلطة في يناير 2025، اعتمد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نهجًا مختلفًا عن سلفه جو بايدن فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية؛ حيث سعى إلى التقارب مع روسيا وتحسين العلاقات معها إلى حد استثنائها من قائمة الدول المشمولة بالرسوم الجمركية الأمريكية، متجاهلًا في الوقت نفسه حلفاء واشنطن التقليديين في حلف شمال الأطلسي. بالتوازي مع ذلك، أعلن ترامب تعليق جميع المساعدات العسكرية الأمريكية المقدمة لأوكرانيا، بما في ذلك الدعم الاستخباراتي والمعدات والإمدادات التي كانت في طريقها إلى كييف، محملًا هذه الأخيرة مسؤولية بدء الحرب ومشككًا في شرعية رئيسها فولوديمير زيلينسكي، غير أن الموقف الأمريكي شهد تحولًا جذريًا خلال الأشهر الماضية، تجسد في استئناف جزئي للدعم العسكري لأوكرانيا وفرض عقوبات اقتصادية جديدة على قطاع النفط الروسي.
هذا التحول المفاجئ في الموقف الأمريكي تعزز بشكل خاص بعد فشل قمة ألاسكا، التي عُقدت في أغسطس 2025 بين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، في التوصل إلى تسوية بشأن الحرب الأوكرانية، ثم إلغاء قمة أخرى كان مقررًا عقدها في العاصمة المجرية بودابست، وهو ما زاد من إحباط ترامب الذي أتهم نظيره الروسي بالمماطلة، وردًا على ذلك هدد الرئيس الأمريكي، في أكتوبر الماضي، بأنه إذا لم يتم التوصل إلى تسوية في أقرب وقت فقد يمنح الضوء الأخضر لإرسال صواريخ توماهوك Tomahawk الأمريكية إلى أوكرانيا استجابةً لدعوات رئيسها المتكررة بضرورة تزويد بلاده بأسلحة هجومية بعيدة المدى، ومع ذلك يرى مراقبون أن هذا التهديد ما هو إلا وسيلة للضغط على موسكو ودفعها إلى قبول التفاوض لإنهاء الحرب، وأن قرار الولايات المتحدة تزويد “كييف” بهذه الصواريخ، التي تتمتع بقدرة تدميرية هائلة ضد البنى التحتية والمجمعات الصناعية والعسكرية، يخضع لحسابات معقدة من شأنها أن تدفع الإدارة الأمريكية إلى التفكير جديًا قبل اتخاذ هذه الخطوة.
في هذا السياق، تستعرض هذه الورقة التحليلية مواصفات صواريخ توماهوك بعيدة المدى وقدراتها الهجومية، كما تسعى أيضًا إلى الكشف عن دوافع أوكرانيا للحصول على هذه الصواريخ، والعقبات السياسية والتشغيلية التي يمكن أن تعترض تزويد القوات الأوكرانية بهذا النوع من الصواريخ المجنحة.
أولاً: ما هي صواريخ توماهوك الأمريكية بعيدة المدى؟
تعد صواريخ توماهوك الأمريكية إحدى منظومات الصواريخ الهجومية بعيدة المدى، يتم إطلاقها عادةً من منصات بحرية، كالغواصات والسفن الحربية، لمهاجمة أهداف أرضية أو بحرية تقع على مسافة تتراوح بين 1500 و2500 كم. ولأكثر من أربعة عقود، ظلت صواريخ توماهوك، التي تحلق دون مستوى سرعة الصوت، تشكل الركيزة الأساسية لسلاح البحرية الأمريكية، لقدرتها الفائقة على توجيه ضربات دقيقة، والتحليق على ارتفاعات منخفضة، مما يصعب مهمة اكتشافها أو اعتراضها من جانب رادارات وأنظمة دفاع الدولة المعادية.
ولعل أهم ما يميز صواريخ توماهوك أنها خضعت لاختبارات ميدانية وأثبتت فعاليتها ودقتها خلال العمليات العسكرية التي خاضتها القوات الأمريكية، سيما أثناء حرب الخليج الثانية ضد القوات العراقية عام 1991، ثم توسعت البحرية الأمريكية في استخدامها خلال العقدين الماضيين، وشمل ذلك عمليات عسكرية متنوعة في الشرق الأوسط ضد العراق وليبيا وسوريا، وصولًا إلى عملية “مطرقة منتصف الليل” في يونيو 2025؛ حيث أطلقت إحدى الغواصات الأمريكية المتمركزة في بحر العرب نحو 30 صاروخًا باتجاه مواقع إيران النووية.
وقد طورت البحرية الأمريكية خمسة نماذج مختلفة من صواريخ توماهوك؛ النماذج الثلاثة الأولى (المرقمة من Block I إلى Block III) تم تطويرها خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي وهي مزودة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وشهدت السنوات الأولى من الألفية الجديدة ترقية هذه الصواريخ إلى فئة Block IV المعززة بتقنية الاتصال بالأقمار الصناعية، وفي عام 2021، أدخلت البحرية الأمريكية النموذج الخامسBlock V المزود بأجهزة الاستشعار وتقنيات إلكترونية تسمح بالتحكم الذكي في اتجاهات الطيران.

Source: Josh Milton, What are the Tomahawk missiles that Donald Trump wants to send to Ukraine?, Metro, 13 October 2025, avalaible at https://n9.cl/jdyds
بشكل عام، يمكن القول إن صواريخ توماهوك المجنحة مصممة بالأساس للإطلاق من البحر، ومع ذلك نجحت القوات الأمريكية في تطوير آليات لإطلاقها من خلال منصات أرضية، وفيما يمكن تزويد هذه الفئة من الصواريخ بذخائر ورؤوس حربية تقليدية، يمكن أيضًا تزويدها برؤوس نووية، وتوفر أنظمة التحكم بصواريخ توماهوك إمكانية إعادة برمجة الصاروخ أثناء تحليقه، وبالتالي إعادة تغيير مساره نحو هدف جديد.
ثانيًا: دوافع أوكرانيا الاستراتيجية للحصول على صواريخ توماهوك
مع تصاعد وتيرة الحرب وفشل الجهود الدبلوماسية في وقفها، بدا واضحًا أن الأسلحة الغربية التي تحصلت عليها أوكرانيا من القوى الغربية، بما في ذلك منظومة باتريوت Patriot الدفاعية الجوية، وطائرات F- 16 متعددة المهام، إضافةً إلى صواريخ المدفعية عالية الحركة من طراز هيمارس HIMARS ومدافع هاوتزر Howitzers التي قدمتها الولايات المتحدة لكييف، غير كافية لكبح الهجوم والتوغل الروسي في أراضيها؛ لذا فقد سعت كييف للحصول على دعم غربي إضافي يتضمن أسلحةً هجوميةً بعيدة المدى، وتحقيقًا لذلك انخرطت أوكرانيا بدعم ووساطة من حلفاءٍ أوروبيين في محادثات مع واشنطن، من أجل تزويدها بصواريخ توماهوك، لكن الإدارة الأمريكية ما تزال مترددة بشأن هذه الخطوة رغم تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن هذا الخيار يظل قائمًا ما لم تقبل روسيا بإنهاء الحرب والجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتعكس مساعي القيادة الأوكرانية للحصول على هذه الأسلحة الهجومية المتطورة رغبتها وطموحاتها في تحقيق عدة أهداف ميدانية وسياسية، يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الوصول إلى أهداف استراتيجية داخل العمق الروسي: تسعى كييف، في حال امتلاكها صواريخ توماهوك بعيدة المدى، إلى ضرب أهداف ومنشآت حيوية في العمق الروسي، في مقدمتها مصافي النفط ومنشآت تخزين الوقود، وكانت القوات الأوكرانية قد كثفت بالفعل هجماتها ضد هذه المنشآت على مدار الأشهر الماضية باستخدام الطائرات المسيرة، إلا أن هذه الهجمات ألحقت أضرارًا محدودة بقطاع النفط والغاز الروسيين؛ لذلك تعتقد كييف أن صواريخ توماهوك يمكن أن تزيد من حجم هذه الأضرار وتلحق دمارًا بالغًا، كما تتضمن هذه الأهداف أيضًا منشآت عسكرية روسية، بما في ذلك عشرات القواعد الجوية ومصانع الأسلحة ومقرات وحدات الجيش، والتي يمكن استهدافها عبر صواريخ توماهوك، ومع ذلك لا نستبعد أن تضع الولايات المتحدة قيودًا على استخدام هذه الصواريخ لمنع كييف من استعمالها ضد أهداف عسكرية.
2- تعزيز القدرات الهجومية وموازنة التفوق الروسي: لا شك أن تزويد كييف بصواريخ توماهوك وإزالة القيود المتعلقة باستعمالها سيعزز قدرات أوكرانيا الهجومية ويضاعف فعاليتها في مواجهة التفوق العسكري الروسي، فبجانب أصولها من الطائرات المسيرة محلية الصنع وصواريخ ستورم شادو Storm Shadow البريطانية/ الفرنسية والتي يصل مداها إلى نحو 500 كم، يمكن أن تشكل صواريخ توماهوك عنصرًا إضافيًا حاسمًا لاستهداف مستويات عدة ومتدرجة داخل العمق الروسي، كما سيؤدي استخدام هذه الأسلحة الهجومية إلى إرهاق أنظمة الدفاع الجوي الروسية ومضاعفة تكلفة تشغيلها، علاوةً على ذلك، فإن الاستخدام الفعلي لصواريخ توماهوك الدقيقة، قد يدفع روسيا إلى تأخير أو تعطيل عملياتها الهجومية في شرق أوكرانيا، وإعطاء الأولوية، بدلًا من ذلك، لتأمين منشآت النفط والطاقة والبنى التحتية الاستراتيجية التي يمكن أن تلحق بها أضرارًا بالغة نتيجة تعرضها لضربات صاروخية.
3- زيادة الضغوط على موسكو ودفعها إلى التفاوض: يظل أحد الأهداف الرئيسية التي تقترن برغبة كييف في امتلاك صواريخ توماهوك الأمريكية تكثيف الضغوط على القيادة الروسية التي ترفض حتى الآن المسار الدبلوماسي لوقف الحرب، وفي هذا الصدد يعتقد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن صواريخ توماهوك تمثل أداةً للضغط يمكن من خلالها فرض معادلة تفاوضية تقوم على إنهاء الصراع بشروط عادلة ومرضية للجانبين، معللًا ذلك بأن موسكو تخشى تزويد الأمريكيين لبلاده بهذا النوع من الصواريخ المتطورة، وبالتالي فإن حصول أوكرانيا عليها سيُسهم في تحقيق السلام المنشود.
4- تعزيز الانطباع بقدرة أوكرانيا على إدارة مجريات الصراع: في ظل استمرار حالة التردد التي تبديها الولايات المتحدة وعدم استجابتها حتى اللحظة لمطالب أوكرانيا بتزويدها بصواريخ توماهوك، فإن أي تعديل في هذا الموقف الأمريكي سيعتبر إنجازًا لافتًا يحسب لصالح القيادة الأوكرانية، ويظهر قدرتها على التأثير في دوائر صنع القرار الأمريكية، من جانب آخر، سيعد هذا التطور دليلًا على قوة كييف في إدارة مجريات الصراع المعقد مع روسيا، مما سيعزز تماسك الجبهة الداخلية الأوكرانية في مواجهة التحديات المستمرة التي تفرضها الحرب.
ثالثًا: معوقات حصول أوكرانيا على صواريخ توماهوك بعيدة المدى
على الرغم من التغير الذي طرأ على موقف الإدارة الأمريكية بشأن الحرب الأوكرانية كما أسلفنا، وإعلان الرئيس دونالد ترامب أن إدارته وضعت خططًا بالفعل لإمكانية تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك بعيدة المدى، إلا أنه من غير المحتمل أن تقدم الولايات المتحدة على تسليح الجيش الأوكراني بهذه المنظومة الصاروخية، ويعزى ذلك إلى الأسباب التالية:
1- افتقار أوكرانيا إلى أنظمة تشغيل وإطلاق مناسبة: كما ذكرنا، تحتاج صواريخ توماهوك إلى منصات إطلاق مخصصة، ولاسيما منصات الإطلاق الأرضية من طراز “تايفون”، وحتى إن وافقت الولايات المتحدة على تزويد أوكرانيا بها، فإن هذا الأمر سيتطلب عدة سنوات لإنتاج وحدات الإطلاق الكافية، كما أن نقل هذه المنصات إلى أوكرانيا عبر أوروبا سيواجه صعوبات لوجستية وسياسية بالغة. من ناحية أخرى، ستحتاج القوات الأوكرانية إلى تدريب مكثف حول كيفية تشغيل هذه المنظومة الصاروخية، الأمر الذي يتطلب نشر قوات أمريكية أو أوروبية على أراضيها لتحقيق هذه المهمة، لكن بعض الخبراء العسكريين يرون أنه يمكن تدريب القوات الأوكرانية في إحدى دول الناتو، وأن الأوكرانيين لن يواجهوا أي صعوبة في التعامل مع صواريخ توماهوك لأن لديهم بالفعل خبرة كافية حول كيفية تشغيل أنظمة التسليح الغربية.
2- مخاوف البنتاجون من نفاذ صواريخ توماهوك: يعتقد بعض المحللين أن وزارة الحرب الأمريكية تخشى من أن يؤدي تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك إلى انخفاض المخزون الاستراتيجي لديها من هذه الأسلحة والذي يقدر بنحو 1300 صاروخًا فقط، في وقتٍ يتزايد فيه طلب قوات البحرية الأمريكية على هذه الصواريخ لمهام تتعلق بالتدريب أو الاستعداد لردع الخصوم المحتملين ومواجهة التهديدات المتصورة في منطقة الإندو- باسيفيك، ويعزز هذه المخاوف أن أوكرانيا ليست بحاجة إلى بضع صواريخ فقط، بل تحتاج إلى كمية ضخمة منها لتعزيز قدراتها الهجومية، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى ضغط الإنتاج وعرقلة خطط واشنطن لدعم حلفائها الآخرين بهذا النوع من الصواريخ، والحديث هنا عن الحليف الإسرائيلي الذي يشكل دعمه أولويةً مقارنةً بأوكرانيا.
3- تحاشي استفزاز روسيا وتجنب ردها الانتقامي: إن تسليح أوكرانيا بصواريخ توماهوك عالية الدقة وقدرة كييف على استخدامها لضرب أهداف حيوية داخل العمق الروسي قد لا يجابه فقط بتصعيد روسي مماثل، بل برد انتقامي يمكن أن يتجاوز استخدام الأسلحة التقليدية التي اعتادت موسكو استخدامها منذ اندلاع الصراع، وهو الأمر الذي يتحاشاه الطرفان منذ بداية الحرب حتى اليوم، وقد صرح دميتري مدفيديف، الرئيس الروسي الأسبق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي حاليا، بأن تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك بعيدة المدى ستكون له عواقب وخيمة على الجميع، محذرًا من أنه لا يمكن التمييز بين صواريخ توماهوك المزودة برؤوس حربية تقليدية وتلك المزودة برؤوس نووية، ما يفسر أن الرد الروسي قد يرقى إلى استعمال أسلحة نووية تكتيكية.
4- رغبة الإدارة الأمريكية في الإبقاء على المسار الدبلوماسي مع موسكو: فيما قلل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تأثير صواريخ توماهوك على مسار الحرب في أوكرانيا، إلا أنه حذر في الوقت نفسه من مغبة هذه الخطوة وتداعياتها على العلاقات الدبلوماسية بين بلاده والولايات المتحدة، وضمن السياق ذاته، حذر وزير الخارجية الروسي، سيرجى لافروف، من أن تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك قد تكون له عواقب خطيرة للغاية، ولا شك أن هذا التصعيد هو آخر ما يرغب أو يفكر به الرئيس دونالد ترامب الذي يصور نفسه كرجل صانع للسلام، وهو الذي ألمح في أكثر من مناسبة إلى قدرته على إنهاء الحرب الأوكرانية، وبالتالي يدرك هذا الأخير جيدًا أن تسليح أوكرانيا بصواريخ توماهوك قد ينسف أية فرصة لاستئناف المسار التفاوضي مستقبلًا ويزيد من تصلب الموقف الروسي.
في الختام، يمكن اعتبار تزويد الولايات المتحدة لأوكرانيا بصواريخ توماهوك بعيدة المدى مسألة شائكة وتخضع لاعتبارات معقدة تتداخل فيها حسابات سياسية واستراتيجية دقيقة، وعلى ضوء هذه الاعتبارات قد تتجنب الإدارة الأمريكية الإقدام على هذه الخطوة، وبالتالي فإن التهديد الأمريكي في هذا الإطار لا يتجاوز كونه وسيلة للضغط على روسيا للعودة إلى طاولة المفاوضات، وفي حال تجاهلت واشنطن هذه الاعتبارات ومضت في تسليح أوكرانيا بصواريخ توماهوك الهجومية، فإنه من غير المحتمل أن يتم ذلك بواسطة الأمريكيين بشكل مباشر، والسيناريو الأرجح هو بيع هذه الصواريخ إلى القوى الأوروبية في حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتقوم بدورها بتسليمها ونقلها إلى أوكرانيا. ومع ذلك فإن امتلاك كييف لهذا النوع من الصواريخ بعيدة المدى لن يكون كافيًا لتحويل مسار الحرب أو تغيير موازين القوة كليًا؛ حيث لا يمكن لمنظومة تسليحية واحدة تحقيق ذلك، لكن ما هو مؤكد أن صواريخ توماهوك ستعزز قدرة كييف الهجومية وتمنحها دعمًا إضافيًا للوصول إلى العمق الاستراتيجي الروسي وإلحاق الضرر بصادرات الطاقة الروسية التي تدعم اقتصاد موسكو ومجهودها الحربي.