شهدت الفترة الرئاسية الأولى والثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحولًا جذريًا في السياسة الأمريكية تجاه الهجرة واللجوء، حيث فرضت هذه السياسات تحديات جديدة على القارة الإفريقية، وتتجلى هذه التحديات في انخراط الدول الإفريقية في صفقات التهجير القسري، التي تبنتها إدارة ترامب عبر مجموعة من الإجراءات القانونية والدبلوماسية، التي تهدف إلى تقليص تدفق المهاجرين واللاجئين إلى الولايات المتحدة، وتحميل الدول الإفريقية أعباء استيعاب هؤلاء الأفراد، سواء من خلال صفقات “الدولة الثالثة الآمنة” أو عبر توظيف أدوات الضغط المالية والدبلوماسية.
تتميز هذه السياسات بكونها ليست مجرد محاولات للحد من تدفق المهاجرين إلى الولايات المتحدة، بل هي جزء من استراتيجية جيوسياسية تهدف إلى إعادة توزيع أعباء اللجوء والهجرة العالمية على دول الجنوب، وخاصة إفريقيا. وقد أظهرت هذه السياسات تباينًا واسعًا في المواقف بين الدول الإفريقية، حيث انقسمت الدول بين مؤيدة لهذه الصفقات بسبب المكاسب السياسية والمالية، وبين رافضة لهذه السياسات استنادًا إلى اعتبارات السيادة والأمن الداخلي، كما كشفت هذه السياسات عن تراجع الدور الجماعي للاتحاد الإفريقي في التعامل مع قضايا الهجرة، ما أدى إلى تصاعد انقسام داخلي في المواقف الوطنية والإقليمية تجاه ملف الهجرة.
يستعرض هذا التقدير أبعاد سياسات التهجير القسري الأمريكية في إفريقيا، من خلال تفكيك المراحل التي مرت بها، مع التركيز على تداعياتها المختلفة ومواقف الدول الإفريقية منها، فضلاً عن استشراف السيناريوهات المستقبلية التي قد تواجهها القارة، واقتراح مسارات استراتيجية للاتحاد الإفريقي لتعزيز التنسيق بين دوله في مواجهة هذه السياسات.
أولًا: سياسات التهجير القسري لأفريقيا في عهد ترامب
شهدت المقاربة الأمريكية لقضايا الهجرة واللجوء، ولا سيما فيما يتعلق بالدول الإفريقية، تحولات هامة خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، وقد تميزت هذه المقاربة بعدد من السمات الأساسية، كان من أبرزها التشدد الأمني، والتوجهات التمييزية ذات الطابع العنصري، بالإضافة إلى السعي نحو تحميل الدول الأخرى عبء الهجرة، وشكلت هذه السياسات امتدادًا لما يمكن تسميته بـ”التهجير القسري غير المباشر”، عبر توظيف أدوات قانونية، دبلوماسية، واقتصادية، تهدف في مجملها إلى إعادة رسم خريطة اللجوء والهجرة العالمية، بطريقة تخدم المصالح الجيوسياسية والديموجرافية للولايات المتحدة. [1]ولفهم هذه السياسات يمكن تقسيمها إلى خمس مراحل:
المرحلة الأولى- الحظر الأمني والديني (2017–2021): في ولاية الرئيس ترامب الأولى، تم إقرار مجموعة من الإجراءات التمييزية ذات الطابع الديني والأمني، كان أبرزها ما عرف بحظر السفر الإسلامي، حيث تم إدراج دول ذات أغلبية مسلمة ضمن قائمة الحظر، بما في ذلك دول إفريقية مثل الصومال، السودان، تشاد، وليبيا، وقد تم تبرير ذلك الحظر حينها بمزاعم أمنية تتعلق بالإرهاب، رغم غياب الأدلة الموضوعية، وقد شكلت هذه السياسات الخطوة الأولى في مشروع متكامل لإعادة توجيه سياسات الهجرة نحو نموذج أكثر انغلاقًا.
المرحلة الثانية- التهجير القسري العابر للحدود “الحالة الفلسطينية”: حيث كشفت تقارير خلال عامي 2024 و2025 عن وجود مخططات أمريكية–إسرائيلية تهدف إلى التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة إلى عدد من الدول الإفريقية، وذلك في سياق حرب السابع من أكتوبر 2023، وتُعد هذه السياسات جزءًا من مقاربة أوسع لإعادة هندسة الواقع الديموجرافي والسياسي في الأراضي الفلسطينية، تسعى من خلالها إسرائيل، بدعم أمريكي، إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه، عبر ترتيبات توطين خارجي قسري، في دول إفريقية، وتطرح هذه المرحلة إشكاليات متعددة تتعلق بـشرعية استخدام دول الجنوب كمساحات لتفريغ الأزمات، وتحويل اللاجئين إلى أوراق تفاوض سياسي، بما يُعيد إنتاج أنماط استعمارية في التعامل مع الدول الإفريقية، ويُهدد في الوقت ذاته الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها حق العودة وتقرير المصير.[2]
المرحلة الثانية- التوسيع الجغرافي للحظر (2025): في يونيو 2025، خلال ولاية ترامب الثانية، تم توقيع قرارًا موسعًا لحظر السفر شمل 19 دولة، غالبيتها من إفريقيا ومنطقة الكاريبي، وقد تضمن القرار تعليقًا كليًا للسفر من 12 دولة، من بينها سبع دول إفريقية (تشاد، الكونغو برازافيل، غينيا الاستوائية، إريتريا، ليبيا، الصومال، السودان)، إلى جانب دول من آسيا والشرق الأوسط، كما فُرضت قيود جزئية على سبع دول أخرى، منها ثلاث إفريقية (بوروندي، سيراليون، وتوجو) وقد تحول التبرير الرسمي من التركيز على الهوية الدينية إلى ذرائع أمنية وإدارية، شملت اتهام رعايا الدول المستهدفة بانتهاك قواعد التأشيرات، واعتبار دولهم ملاذًا آمنًا للإرهاب، فضلًا عن افتقارها للتعاون في عمليات الترحيل، ويُظهر هذا التحول تطورًا في أدوات التقييد، مع بقاء الهدف الأساسي ثابتًا وهو تقليص تدفق المهاجرين من دول العالم النامي، وبشكل خاص من القارة الإفريقية.[3]
المرحلة الرابعة- التمييز العنصري في إعادة التوطين “حالة الأفريكانيين”: تعكس سياسة الهجرة الأمريكية خلال إدارة ترامب عدة مفارقات، إذ أبدت انفتاحًا ملحوظًا تجاه استقبال “الأفريكانيين” من جنوب إفريقيا (أحفاد المستوطنين الأوروبيين من أصول هولندية وفرنسية) استنادًا إلى مزاعم “الاضطهاد”، في الوقت الذي شهدت فيه السياسات نفسها تشديدًا كبيرًا تجاه طالبي اللجوء من باقي الدول الإفريقية ومناطق النزاع، لاسيما من الشرق الأوسط. وتشير تقارير إلى توجه الإدارة نحو خفض استقبال اللاجئين إلى 40 ألفًا بحلول عام 2026، مع تخصيص حصة كبيرة من هذا العدد للأفريكانيين، مقابل تجميد شبه كامل لطلبات اللجوء من الدول الإفريقية الأخرى. ويُثار في هذا السياق عدد من التساؤلات حول المعايير المُعتمدة لاختيار اللاجئين، خاصة في ظل التفاوتات العرقية والاجتماعية داخل جنوب إفريقيا نفسها؛ حيث لا يزال البيض الذين لا تتجاوز نسبتهم 7% من إجمالي السكان يهيمنون على أكثر من 60% من المناصب الإدارية العليا، في حين يعاني السكان السود، الذين يشكلون قرابة 80% من السكان، من معدلات بطالة تُقدر بخمسة أضعاف نظيرتها لدى السكان البيض.[4]
المرحلة الخامسة- صفقات الدولة الثالثة الآمنة: شهدت هذه المرحلة تحولًا نوعيًا في سياسات إدارة ترامب تجاه المهاجرين واللاجئين، إذ انتقلت من منطق المنع إلى تبني آليات الترحيل القسري المنظم، عبر ما يُعرف بـ”صفقات الدولة الثالثة الآمنة”، وقد أبرمت الإدارة الأمريكية ترتيبات ثنائية مع عدد من الدول الإفريقية، من بينها رواندا، أوغندا، وجنوب السودان، تقضي باستقبال مهاجرين أو طالبي لجوء مرفوضين من الولايات المتحدة، دون أن تكون لهذه الدول أي صلة مباشرة بالروابط الجغرافية أو الأصلية لهؤلاء الأفراد، وتقوم هذه الصفقات على تحميل الدول الإفريقية أعباء استيعاب اللاجئين والمهاجرين، مقابل تقديم حوافز مالية أو سياسية، أو في بعض الحالات، تحت وطأة ضغوط دبلوماسية وتهديدات بعقوبات.
وقد أُضفي على هذا التوجه طابعًا قانونيًا بعد قرار المحكمة العليا الأمريكية في يونيو 2025، والذي قضى بإعادة تفعيل سياسة الترحيل إلى بلد ثالث، بما يتيح للسلطات الأمريكية ترحيل الأفراد إلى دول لا تمثل أوطانهم الأصلية، في حال امتناع دولهم عن استقبالهم، وترافق هذا الحكم مع تهديدات مباشرة من إدارة ترامب للدول غير المتعاونة، استنادًا إلى قانون الهجرة والجنسية الأمريكي، الذي يجيز تعليق منح التأشيرات للدول التي تعرقل أو ترفض عمليات الترحيل، وبذلك أعيد تكريس الهجرة القسرية كأداة عقابية وجيوسياسية، تُوظفها الولايات المتحدة ليس فقط للحد من تدفق اللاجئين، بل أيضًا لإعادة ضبط التفاعلات الدولية مع الدول الإفريقية ، وفق شروط أمريكية صارمة. [5]
ثانيًا: انقسام إفريقي في مواجهة سياسات التهجير القسري الأمريكية
شكلت سياسات التهجير القسري التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا سيما في ولايته الثانية الممتدة حتى 2025، اختبارًا لقدرة الدول الإفريقية على بلورة موقف جماعي وموحد تجاه ملف الهجرة، وقد أظهرت هذه السياسات انقسامًا واضحًا في الموقف الإفريقي، حيث اتجهت بعض الدول إلى تبني مقاربات قائمة على اعتبارات المنفعة قصيرة المدى، في حين رفضت أخرى استقبال المهاجرين، بينما اتسمت مواقف بعض الدول بالغموض والتردد، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
1- دول إفريقية وافقت على اتفاقيات التهجير لدولة ثالثة:
انخرطت بعض الدول الإفريقية، مثل جنوب السودان[6]، رواندا[7]، أوغندا[8]، ومملكة إسواتيني[9]، في ترتيبات مباشرة مع إدارة ترامب لاستقبال مهاجرين مرحلين من الولايات المتحدة، لا يحملون جنسيات هذه الدول، وذلك بموجب ما يُعرف بـ”صفقات الدولة الثالثة الآمنة”، وتستند هذه الصفقات إلى منطق أمريكي يقوم على نقل عبء المهاجرين غير المرغوب فيهم إلى دول أخرى، مقابل تقديم دعم مالي أو سياسي لتلك الدول، ويمكن قراءة هذا التوجه من زاويتين متداخلتين:
زاوية التوظيف السياسي الداخلي: تسعى بعض الأنظمة الأفريقية إلى تعزيز شرعيتها الداخلية والخارجية عبر تصوير نفسها كـشريك دولي مسؤول، قادر على إدارة قضايا معقدة مثل الهجرة، خاصة في ظل غياب إنجازات تنموية ملموسة أو استقرار سياسي حقيقي.[10]
زاوية الابتزاز الدولي المتبادل: أظهرت وثائق دبلوماسية من جنوب السودان مثل المذكرة الموجهة للسفارة الأمريكية في جوبا أن الموافقة على استقبال المرحلين اقترنت بمطالب سياسية محددة، مثل رفع العقوبات عن مسؤولين كبار، أو دعم ترتيبات محلية ضد خصوم سياسيين، وهو ما يفتح الباب أمام استخدام الهجرة كأداة مساومة سياسية لا علاقة لها بالمعايير الحقوقية أو الإنسانية.
2- دول إفريقية رفضت استقبال المهاجرين:
في مقابل هذا الانخراط، برزت نيجيريا وجنوب إفريقيا كأبرز الدول الرافضة لهذه السياسات؛ إذ رفضت نيجيريا محاولات فرض المرحلين من دول ثالثة، مستندة في ذلك إلى اعتبارات أمنية واقتصادية وسيادية، كما شددت على أن بعض المرحّلين من المدانين قد يشكلون تهديدًا مباشرًا للمجتمع المحلي، في ظل غياب أي التزام قانوني أو أخلاقي يفرض على نيجيريا استقبالهم.[11]
أما جنوب إفريقيا، فقد عبرت عن رفضها لسياسات الترحيل من منطلق مزدوج، أمني وسياسي، فعلى الصعيد الأمني، حذرت حكومة بريتوريا من التداعيات المحتملة لترحيل أشخاص مدانين إلى دولة مجاورة، مثل إسواتيني، لما قد ينطوي عليه ذلك من تهديد لاستقرار الإقليم ككل. أما على المستوى السياسي، فقد وظفت جنوب إفريقيا هذا الملف كمنصة لتكثيف انتقاداتها للسياسة الخارجية الأمريكية، في سياق التوتر المتنامي بين البلدين، لا سيما في ضوء موقف بريتوريا المعارض للهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة.
3- دول إفريقية اتسم موقفها بالغموض:
في غرب إفريقيا، اتسمت مواقف العديد من الدول (ليبيريا[12]، السنغال، موريتانيا، غينيا بيساو، الجابون) بالتردد والغموض، ورغم التقارير التي تحدثت عن ضغوط دبلوماسية أمريكية لعقد صفقات ترحيل، فإن هذه الحكومات لم تصدر مواقف واضحة، وقد يرجح ذلك لتجنب الصدام مع واشنطن من جهة، وعدم تحمل تبعات داخلية لمثل هذه السياسات من جهة أخرى، ويعكس هذا الصمت هشاشة الموقف الإفريقي الجماعي، وتراجع فعالية المنظومة الإقليمية ممثلة بالاتحاد الإفريقي.[13]
4- موقف المجتمع المدني من التهجير:
وسط هذا التباين الرسمي، شكلت ردود فعل المجتمع المدني في بعض الدول، مثل إسواتيني، مؤشرًا مهمًا على وجود رفض شعبي لهذه السياسات، حيث وُصفت الاتفاقات بأنها “اتجار بالبشر”، وتقدمت قضايا قانونية للطعن فيها، كما حذرت القوى المعارضة من المخاطر الأمنية والاقتصادية المترتبة على استقبال مدانين بجرائم عنف، رفضت بلدانهم الأصلية إعادتهم، وهذا الحراك الشعبي يؤشر إلى أن القوى غير الرسمية في إفريقيا رغم ضعفها النسبي قد تُشكل أداة ضغط بديلة في مواجهة الارتباطات النفعية التي تعقدها بعض الحكومات مع القوى الكبرى.[14]
ثالثًا: التداعيات الجيوسياسية والاجتماعية لاستيعاب دول إفريقية للمرحلين من واشنطن
على الرغم من أن هذه الصفقات قد منحت الإدارة الأمريكية هامشًا أوسع لإدارة ضغوط الهجرة داخليًا، فإنها خلفت في المقابل تداعيات مركبة ذات طابع إنساني، وأمني، واقتصادي، على الدول الإفريقية المنخرطة فيها، ويمكن تفسير ذلك:
تآكل السيادة الوطنية وتدويل قرار الهجرة: تعد السيادة الوطنية ركيزة أساسية لوجود الدولة، غير أن السياسات الأمريكية القائمة على التهجير القسري نحو دول إفريقية ثالثة أسهمت في تقويض هذا المبدأ، فقد وجدت بعض الدول الإفريقية نفسها أمام معادلة صعبة: إما الخضوع للضغوط الأمريكية وقبول مرحلين لا تربطهم بها أي صلة، أو مواجهة عقوبات دبلوماسية واقتصادية شملت التلويح بتعليق منح التأشيرات وتقليص المساعدات، وبهذا تحول قرار الهجرة من شأن سيادي داخلي إلى ورقة تفاوض غير متكافئة، أعادت إنتاج أشكال من الهيمنة تشبه في جوهرها العلاقات الاستعمارية غير المباشرة.
تهديدات أمنية عابرة للحدود: لا سيما حين تضم قوائم المرحلين أفرادًا أدينوا بجرائم جنائية، كما حدث في حالة إسواتيني، التي استقبلت مرحلين ارتكب بعضهم جرائم قتل واغتصاب، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الداخلي لتلك الدول، خاصة في ظل ضعف الموارد الأمنية، فضلًا عن أن بعض المرحلين ينتمون إلى شبكات إجرامية و إرهابية عابرة للحدود، مما يرفع من احتمالية اتساع رقعة الجريمة المنظمة وانتقالها إلى بيئات هشة بالفعل، وبالتالي، بدلًا من المساهمة في الاستقرار، تتحول سياسة الترحيل إلى أداة تصدير للفوضى من الشمال إلى الجنوب.
تفكك اجتماعي وتوترات داخلية: إعادة توطين لاجئين أو مرحلين في مجتمعات محلية فقيرة أو مهمشة يزيد من الاحتقان الاجتماعي، لا سيما عندما يُنظر إلى هؤلاء الوافدين على أنهم غرباء، أو مستفيدون من دعم خارجي غير متاح للمواطنين، وغالبًا ما تترافق هذه السياسات مع انعدام الشفافية الحكومية، مما يؤدي إلى موجة من الغضب الشعبي، كما حدث في احتجاجات إسواتيني، مما يحول أزمة المهاجرين إلى وقود لصراعات داخلية تهدد تماسك المجتمعات المضيفة وتفتح الباب أمام خطاب الكراهية والتمييز.
أعباء اقتصادية وتآكل التنمية المحلية: في ظل ضعف البنية التحتية، وأزمة الموارد المالية، تعاني الدول الإفريقية من ضغط إضافي يتمثل في استيعاب أعداد من المرحلين ضمن منظومات صحية وتعليمية وسكنية محدودة. فعلى سبيل المثال، تستضيف أوغندا قرابة 1.8 مليون لاجئ، وهي دولة تواجه تحديات مناخية وأمن غذائي متفاقمة، لذلك فأن إضافة المرحيلن حتى بأعداد صغيرة يزيد من الضغط على الموارد، ويعمق الهشاشة الاقتصادية، خصوصًا مع غياب التزامات دولية طويلة الأجل لتمويل إعادة التوطين، وبالتالي، تُستنزف موارد الدول مقابل منافع قصيرة الأمد، مما قد يقوض خطط التنمية.[15]
تعقيد إدماج المجتمعات وخلق فجوات ثقافية: إعادة توطين مرحلين من دول غير إفريقية يخلق تحديًا ثقافيًا، خاصة إذا لم تكن هناك روابط لغوية أو دينية أو اجتماعية، ويزيد ذلك من صعوبة الإدماج الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء الأفراد، ويولد مشاعر الاغتراب أو الرفض المتبادل، في هذه الحالة، تتحول الدول الإفريقية إلى أماكن لدمج قسري غير مستقر يزيد من احتمالات العنف المجتمعي والهشاشة السياسية.
رابعًا: السيناريوهات المحتملة للانخراط الإفريقي في صفقات التهجير القسري
يفترض هذا السيناريو استمرار بعض الدول الإفريقية في القبول بصفقات التهجير، بدوافع سياسية واقتصادية، ويتم هذا الانخراط خارج أي إطار مؤسسي قاري، ما يؤدي إلى تعمق الانقسام بين دول مؤيدة (بسبب المكاسب المحتملة) وأخرى رافضة (حفاظًا على السيادة والاستقرار الداخلي)، كما يُسهم غياب موقف رسمي موحد من الاتحاد الإفريقي في تكريس تراجع القدرة على التفاوض الجماعي في قضايا الهجرة واللجوء. وفي هذا السيناريو، تقوم واشنطن بتصدير أعباءها الداخلية نحو القارة الإفريقية، بينما تتحمل الدول المستقبِلة التداعيات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، ويُحتمل أن يُشجع نجاح هذه السياسة، حتى بشكل جزئي، دولًا غربية أخرى على اعتماد النموذج نفسه، مما قد يُحول القارة إلى وجهة افتراضية للترحيل الدولي، دون حماية قانونية أو سياسية كافية.
ويرجح حدوث هذا السيناريو نظرًا لتطابقه مع الواقع الراهن، حيث وقعت أربع دول إفريقية اتفاقيات ترحيل فعلية، وتتعامل بعض الحكومات الإفريقية مع هذه السياسات كفرصة لمكاسب استراتيجية أو تخفيف عقوبات، وضعف الاتحاد الإفريقي، وتراجع تأثيره كفاعل جماعي منظم في ملف الهجرة، فضلًا عن قابلية الأنظمة الأفريقية الضعيفة للتأثر بالضغوط السياسية والمالية من واشنطن. ويواجه هذا السيناريو عدة معوقات أبرزها تصاعد الرفض الحقوقي والمجتمعي داخل بعض الدول المنخرطة وتزايد التوتر الإقليمي مع الدول الرافضة، بما يُهدد بتكريس استقطاب داخلي قاري.
يتوقع هذا السيناريو أن تؤدي سياسات التهجير القسري إلى أزمات داخلية متفاقمة في الدول الإفريقية المستقبِلة، تشمل تصاعد الجريمة، التوترات المجتمعية، وصراعات الهوية، خاصة في دول تعاني من هشاشة مؤسسية وضعف في البنى التحتية، وذلك في ظل غياب موقف إفريقي موحد، تستمر واشنطن في عقد صفقات ثنائية مع أنظمة ضعيفة، مما يكرس الانقسام القاري ويضعف القدرة على التفاوض الجماعي.
مع الوقت، قد تتحول بعض المناطق إلى بؤر توتر عابرة للحدود تُستغل من قبل جماعات مسلحة أو شبكات إجرامية، مما يدفع إلى تدويل الملف عبر طرحه على أجندة مجلس الأمن، وتدخل منظمات حقوقية دولية، ورفع دعاوى قانونية ضد السياسات المعتمدة، وفرض عقوبات رمزية على بعض الأنظمة الإفريقية، كما قد تتضرر صورة القارة دوليًا، إذ يُعاد إنتاجها كمنطقة “استيعاب للمهمشين”، مما يُضعف من مكانتها التفاوضية ويؤثر على الاستثمار والمساعدات.
ويُعد هذا السيناريو الأقل ترجيحًا نظرًا لحرص الولايات المتحدة على تنفيذ هذه السياسات تدريجيًا وبطريقة منظمة لتفادي تفجر أزمة كبرى، وسعي بعض الحكومات الإفريقية إلى تقديم الصفقات بصيغة إنسانية، مع فرض شروط معينة للانتقاء أو الرفض، وغياب أزمة إنسانية آنية وملموسة تفرض تدخلاً دوليًا مباشرًا في الوقت الراهن. وبذلك، يبقى هذا السيناريو مرهونًا بتفاعلات داخلية معقدة واحتمالات تصعيد خارجي لا تزال محدودة، لكنها قابلة للتطور إذا ما فشلت آليات الاحتواء المحلي، وتعمقت آثار التهجير على الأمن والاستقرار في المنطقة.
يقوم هذا السيناريو على فرضية تصاعد الرفض الشعبي والسياسي داخل الدول الإفريقية لسياسات التهجير، ما قد يؤدي إلى بلورة موقف موحد تقوده دول كنيجيريا وجنوب إفريقيا، ويتبناه الاتحاد الإفريقي في إطار مؤسسي. ويهدف هذا الموقف إلى رفض الضغوط الأمريكية بشكل جماعي، والدفاع عن السيادة الوطنية، مع إمكانية الدفع نحو إعادة التفاوض مع واشنطن ودول الغرب على أسس أكثر توازنًا واحترامًا للمعايير الحقوقية الدولية. إلا أنه غير مرجح حدوث هذا السيناريو نظرًا لغياب الإرادة السياسية الجماعية داخل الاتحاد الإفريقي، واختلاف مواقف الدول الإفريقية، واعتماد بعض هذه الدول على المساعدات الأمريكية، مما يقيد استقلال قرارها.
في ظل التحديات المتزايدة التي تفرضها سياسات التهجير القسري على القارة الإفريقية، يبرز ضرورة تبني الاتحاد الإفريقي لمسارات تحرك استراتيجية تهدف إلى التصدي لهذه الصفقات وحماية سيادة الدول الأعضاء، إلى جانب تعزيز الوحدة القارية وحقوق الإنسان، ويمكن إجمال أبرز هذه المقترحات فيما يلي:
إنشاء آلية إفريقية مستقلة لإدارة ملف الهجرة واللجوء: يقترح أن يتولى الاتحاد الإفريقي إنشاء آلية مستقلة متخصصة في تنسيق وإدارة قضايا الهجرة واللجوء على مستوى القارة، بهدف تعزيز قدرته على مواجهة تحديات التهجير القسري بشكل فعال، ومن مهام هذه الآلية صياغة إطار تنظيمي موحد يتضمن معايير وشروطًا واضحة لاستقبال المرحلين، مع التأكيد على احترام حقوق الإنسان وتقييم المخاطر الأمنية والاجتماعية، وذلك لضمان استيعاب آمن ومستدام للمهاجرين داخل الدول الأعضاء.
إدماج ملف التهجير القسري في أجندة الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان: وذلك من ضرورة تكثيف الاتحاد الإفريقي جهوده لإدماج قضية التهجير القسري ضمن أولويات الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، لتسليط الضوء على الآثار السلبية لهذه السياسات، كما ينبغي تطوير آليات رقابية دولية فعالة تضمن متابعة تنفيذ الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق المهاجرين، وتعزيز المساءلة والشفافية في هذا الملف.
تعزيز التنسيق بين الدول الإفريقية عبر إنشاء منصات حوارية: يُقترح تأسيس منصات رقمية وتفاعلية تتيح للدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي التبادل المستمر للمعلومات بشأن قضايا التهجير القسري، مما يسهم في تعزيز التنسيق والتعاون بين الدول في مواجهة هذه التحديات. بالإضافة إلى ذلك، ينظم منتديات سنوية تجمع الدول المستقبلة للمرحلين لمناقشة التحديات المشتركة وإيجاد حلول عملية ومستدامة، مع التركيز على السياسات التي تعزز من استيعاب المرحلين وتحقيق الاندماج الاجتماعي والاقتصادي لهم.
دعم البحث العلمي والدراسات المستمرة حول آثار التهجير: من الضروري دعم مراكز أبحاث مستقلة تهتم بدراسة آثار سياسات التهجير القسري على المجتمعات الإفريقية، خاصة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما يُوصى بتنظيم ورش عمل ومؤتمرات دولية تجمع بين الخبراء الأكاديميين وصناع القرار لمناقشة أفضل الحلول لإدارة تداعيات التهجير على المدى الطويل، بما يساهم في تحسين السياسات وتعزيز دور الاتحاد الإفريقي في معالجة هذه القضية بشكل فعال.
[3] Steve Holland, Jeff Mason and James Oliphant, Trump headlines Madison Square Garden rally after vulgar, racist remarks from allies, Reuters, October 28, 2024
[10] Ministry of Foreign Affairs of the Republic of Uganda, STATEMENT CONCERNING AGREEMENT ON MIGRATION ISSUES WITH THE GOVERNMENT OF THE UNITED STATES, 21 August 2025 https://x.com/UgandaMFA/status/1958409947495969199
[11] Gift Habib and Olufemi Adediran, Nigeria won’t accept Trump’s deportee deal like Rwanda, S’Sudan – FG, Punchng Website , 9 August 2025
[12] تأسست ليبيريا من قبل جمعية الاستعمار الأمريكي عام 1821 لتكون موطنًا للسود المستعبدين في الشتات، ونالت اعترافًا أمريكيًا بالاستقلال عام 1862 فكانت بذلك أول جمهورية مستقلة في تاريخ القارة، بينما جرى تصميم أول برنامج لإعادة توطين السود في إفريقيا، في شبه جزيرة سيراليون عام 1787 تحت قيادة الإنجليزي توماس كلاركسون، أحد روّاد الحملة ضد تجارة الرقيق في الإمبراطورية البريطانية.