أعلنت السلطات في مالي، منتصف أغسطس 2025، عن إحباط محاولة انقلابية جديدة، أعقبتها حملة اعتقالات واسعة شملت عددًا من الضباط والجنود في الجيش والحرس الوطني، كما وجهت اتهامات إلى أطراف خارجية بالضلوع في دعم هذه المحاولة، في سياق يتسق مع حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي تعيشها البلاد منذ الانقلابين العسكريين في أغسطس 2020 ومايو 2021، وما ترتب عليهما من إعادة تشكيل موازين القوة داخل المؤسسة العسكرية. وتكشف هذه التطورات عن استمرار الهشاشة البنيوية للمشهد السياسي في مالي، كما تبرز حجم التباينات والصراعات داخل المجلس العسكري الانتقالي، لا سيما في ظل تفاقم التوترات بين القيادات العسكرية والمدنية المنخرطة في عملية الانتقال السياسي، وهو ما يعكس محدودية فاعلية مسارات التهدئة وإعادة بناء المؤسسات في المرحلة الانتقالية الراهنة.
تهدف هذه الورقة إلى استعراض الدوافع والأسباب الخاصة بالمحاولة الانقلابية الأخيرة في مالي، مع تحليل الأبعاد السياسية والأمنية والإقليمية المرتبطة بها، كما تسعى إلى دراسة انعكاسات هذه المحاولة على المشهد الوطني والإقليمي، واستشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة، وتقديم مسارات استراتيجية مقترحة للتعامل مع التحديات الداخلية والإقليمية الناشئة عنها.
أولًا: محددات المحاولة الانقلابية في مالي: أبعاد داخلية وخارجية
تعكس المحاولة الانقلابية الأخيرة في مالي استمرار هشاشة المشهدين السياسي والأمني في البلاد، ويمكن تحديد أبرز العوامل التي أسهمت في اندلاع هذا الانقلاب العسكري في:
تصدع الخلافات داخل المؤسسة العسكرية: تتفاقم حالة عدم الاستقرار في مالي بفعل الخلافات الداخلية المتزايدة داخل المجلس العسكري الانتقالي، والتي تعكس تناقض مصالح التيارات المختلفة داخل المؤسسة العسكرية، وقد تجلت هذه الانقسامات بوضوح في إقالة رئيس الوزراء السابق “شوغيل كوكولا” في أكتوبر 2024 نتيجة انتقاداته لإدارة المجلس للفترة الانتقالية بقيادة “أسيمي جويتا”، ما أبرز محدودية توافق القيادة السياسية على إدارة الملفات الحيوية، كما تصاعدت الخلافات بين وزير الدفاع “سايدو كامارا” ورئيس المجلس العسكري الانتقالي، خاصة مع استهداف الاعتقالات القطاع التابع لوزير الدفاع ومقربيه أثناء تواجده خارج البلاد خلال إحباط محاولة الانقلاب الأخيرة، وتدل هذه التطورات على وجود تصدع واضح في تماسك مراكز النفوذ داخل المؤسسة العسكرية، مع تنامي الصراع حول استراتيجيات إدارة الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وهو ما يعكس هشاشة البنية الداخلية للمجلس العسكري وغياب التوافق المطلوب لضمان استقرار الحكم العسكري.
تمسك الرئيس جويتا بالسلطة وإدارة الملفات المتأزمة: يبرز تمسك الرئيس “آسيمي جويتا” بالسلطة كعامل مركزي في المشهد السياسي المالي، ويتمثل هذا التمسك في رفضه الانفتاح السياسي وإنهاء الفترة الانتقالية، بالإضافة إلى تعزيز صلاحياته والاحتفاظ بالتحكم المباشر في إدارة الملفات المهمة، بما في ذلك القضايا الإثنية والاقتصادية، وقد ساهمت المحاولة الانقلابية الأخيرة والاعتقالات الواسعة في ترسيخ هذا النهج، حيث قدمت للمجلس العسكري مبررًا لإحكام السيطرة على مختلف التيارات في المؤسسة العسكرية ومراكز النفوذ، ويشكل هذا التمسك بالسلطة مؤشرًا على استمرار سيطرة القيادة العليا على المشهد السياسي في مالي، لكنه في الوقت ذاته يزيد من احتمالات الاحتكاكات الداخلية ويجعل أي جهود للإصلاح السياسي أو التهدئة الاجتماعية أكثر تعقيدًا، خصوصًا في ظل استمرار التوترات الإثنية والصراعات الإقليمية والجهادية.
دور الأطراف الخارجية: يواجه المجلس العسكري الانتقالي في مالي ضغوطًا متعددة من الأطراف الخارجية، بدءًا من العلاقات المتوترة مع فرنسا والجزائر، وصولًا إلى التحديات المرتبطة بالمنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكوس). وفي المقابل، يتلقى المجلس دعمًا روسيًا ذو طابع رسمي، تمثل في استبدال مجموعة فاجنر بالفيلق الأفريقي التابع لوزارة الدفاع الروسي (رغم تراجع هذا الدعم مؤخرًا نتيجة تكبد القوات الروسية خسائر في الوسط والشمال المالي)، ويُعد الصراع على النفوذ الخارجي عاملًا مركزيًا في تفسير المحاولة الانقلابية الأخيرة، لا سيما مع ارتباط أسماء بعض قادة المحاولة بدول غربية مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى ما أثير حول تورط مواطن فرنسي، وتزامن ذلك مع توافد مسؤولين أمريكيين إلى باماكو خلال الأسابيع الأخيرة. كما أن انشغال روسيا بالأزمة الأوكرانية كأولوية استراتيجية قد يفتح مجالًا لإعادة التوازن أو استعادة النفوذ الغربي في مالي، وهو ما يشكل أحد العوامل المحتملة لتفسير دوافع المحاولة الانقلابية.
انتشار وتزايد نشاط الجماعات المسلحة والإرهابية: تشكل البيئة الأمنية الداخلية في مالي أرضية خصبة للانقلابات العسكرية بسبب العجز المستمر للمجلس العسكري عن احتواء التهديدات التي تشكلها الجماعات المسلحة الجهادية والانفصالية، وتفاقم هذه الحالة يعود إلى غياب بوادر الانفتاح السياسي وضعف مؤسسات الحكم في ضمان الأمن للمواطنين، وهجمات الجماعات المسلحة المتكررة، خاصة في مناطق الوسط والشمال. وتوفر هذه الظروف ذرائع متعددة للانقلابات العسكرية، إذ يمكن استخدام العجز الحكومي عن ضبط الأمن كتبرير للتغيير القسري للسلطة، كما أن تاريخ الانقلابات السابقة في مالي أظهر أن معظمها ارتبط بفشل الأنظمة في حماية الدولة والمواطنين من تهديدات الأمن الداخلي، مما يعزز نمطًا متكرراً من اللجوء إلى التدخل العسكري كحل للاستقرار أو فرض النفوذ السياسي، وهو ما يجعل تزايد نشاط الجماعات المسلحة عاملًا محوريًا في تفجير الأزمات الداخلية وإعادة إنتاج دوامة الانقلابات.
تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية: تواجه مالي تحديات اقتصادية وتنموية متفاقمة، مع استمرار المشكلات الاجتماعية والإثنية التي تشكل جوهر الصراع الداخلي، ويؤدي هذا التدهور إلى تفاقم الضغوط على المجلس العسكري ويزيد من هشاشة الاستقرار، بحيث تشكل الظروف المحلية عاملاً حاسمًا في تفسير المحاولة الانقلابية الأخيرة، خاصة في ضوء الخلافات داخل صفوف المجلس العسكري والتنافس الدولي على النفوذ في البلاد.
ثانيًا: تداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة على الاستقرار في مالي
على الرغم من نجاح السلطات المالية في إحباط المحاولة الانقلابية الأخيرة، إلا أنها تحمل جملة من التداعيات على المشهد السياسي والأمني والاجتماعي والاقليمي في مالي، أبرزها:
استمرار ظاهرة الانقلابات العسكرية: تشير المحاولة الانقلابية الأخيرة إلى استمرار نمط الانقلابات العسكرية في مالي، في ظل إحكام المجلس العسكري السيطرة على المشهد السياسي، نتيجة تمديد الفترة الانتقالية، وتأجيل الانتخابات، وحل الأحزاب السياسية. ومع هذا الوضع، تعزز المحاولة الانقلابية والوضع الأمني الحالي قدرة السلطات في باماكو على إحكام قبضتها على السلطة، ما يجعل الانقلابات العسكرية خيارًا محتملًا كوسيلة للتغيير السياسي أو الانفتاح المحدود، ويزيد من احتمالات استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي على المدى القريب والمتوسط.
تعطيل جهود مواجهة الجماعات المسلحة: تؤدي المحاولة الانقلابية إلى تعطيل الجهود التنسيقية لمواجهة التحديات الأمنية العالقة في مالي، بما في ذلك هجمات الجماعات الجهادية وتمرد الحركات الانفصالية، ويركز المجلس العسكري على تثبيت أركان الحكم والحفاظ على تماسك مراكز النفوذ، ما يؤدي إلى تهميش الأولويات الأمنية، ويمنح التنظيمات الإرهابية فرصة لإعادة تنظيم صفوفها وشن هجمات جديدة، الأمر الذي يزيد من الضغط على النظام الحاكم ويعيق تحقيق الاستقرار الأمني.
تزايد التوترات والصراعات الإثنية: يشكل البعد الإثني عاملًا رئيسيًا في تعقيد المشهد الاجتماعي في مالي، نظرًا للحساسيات القائمة بين الجماعات المختلفة التي تمثل محور الصراع على السلطة، ويزداد هذا التعقيد في حال ارتباط قادة المحاولة الانقلابية بمجموعات اجتماعية معينة، ما قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الإثنية ويزيد ضغوطًا إضافية على الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية القائمة، بما يزيد من هشاشة الاستقرار الاجتماعي في البلاد.
التأثير على توازن القوى في منطقة الساحل: يعكس تكرار الانقلابات في دول الساحل عمق الترابط الجيوسياسي والاستراتيجي الذي يربط هذه الدول، حيث تشكل المحاولات الانقلابية فرصة لإعادة تشكيل توازنات القوى وإعادة توزيع النفوذ الإقليمي والدولي، وقد شهدت المنطقة منذ عام 2020 سلسلة من الانقلابات التي أسفرت عن تحولات جذرية، أبرزها تراجع النفوذ الفرنسي لصالح شراكات جديدة، خاصة مع روسيا، ضمن ما يُعرف بدول تحالف الساحل. في هذا السياق، تثير الاتهامات الموجهة إلى بعض القوى الغربية، ولا سيما فرنسا، بشأن دعم المحاولة الانقلابية الأخيرة في مالي، مخاوف من تكرار مثل هذه السيناريوهات في دول الجوار، مما يعمق حالة عدم الاستقرار ويعيد رسم السياق الاستراتيجي للمنطقة. ومن ثم، فإن هذه التحركات لا تقتصر على الداخل المالي فقط، بل تمتد تداعياتها إلى التوازنات الإقليمية الأوسع، ما يجعل مستقبل الساحل رهيناً لصراع نفوذ دولي محتدم ومفتوح على احتمالات متعددة.
ثالثًا: السيناريوهات المحتملة لمستقبل الوضع السياسي في مالي بعد المحاولة الانقلابية الأخيرة
ينطلق هذا السيناريو من أن المحاولة الانقلابية الأخيرة في مالي تعكس استمرار التحديات البنيوية داخل المؤسسة العسكرية، لاسيما صراع النفوذ بين الأجنحة المختلفة، وهو ما شكل على مدار السنوات الماضية عاملاً حاسمًا في تكرار الانقلابات في البلاد. ويعكس تزايد حدة الخلافات داخل المجلس العسكري الانتقالي، إلى جانب التوتر القائم مع فرنسا وسعيها لاستعادة نفوذها من خلال ضباط محتملين موالين لها – كما يُعتقد في قيادة المحاولة الأخيرة – وجود بيئة خصبة لاحتمال تكرار الانقلابات العسكرية. تتزايد هذه الاحتمالات في ظل تعدد المبررات المحتملة لأي تحرك عسكري مستقبلي، ومنها الإخفاق في معالجة التدهور الأمني، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى الانغلاق السياسي وتفشي قضايا الفساد، ويرتبط تحقق هذا السيناريو بمدى قدرة السلطة الحاكمة على تجاوز هذه التحديات، ولا سيما احتواء الانقسامات داخل المجلس العسكري، وتحقيق إنجازات ملموسة في مواجهة الجماعات المسلحة، ومعالجة الأزمات الداخلية على الصعد السياسية والاقتصادية. وفي حال تحقق هذا السيناريو، فمن المتوقع أن يشهد توازن القوى في منطقة الساحل تغيرات جذرية، تتجلى في عدة مظاهر محتملة:
تصاعد التنافس على النفوذ بين الغرب وروسيا، خصوصًا أن الأخيرة ما تزال تحتفظ بعلاقات قوية مع بقية دول تحالف الساحل.
احتمال انهيار التحالف الثلاثي (مالي – بوركينا فاسو – النيجر)، لا سيما إذا ما ثبت دعم فرنسي لانقلاب جديد في مالي، ما يهدد بتفكك الجبهة الإقليمية الحالية.
إعادة فتح الملفات الإثنية ومطالب الانفصال، خاصة في مناطق الوسط والشمال، مما قد يؤدي إلى تصعيد حاد في النزاعات الداخلية.
تعاظم نشاط الجماعات المسلحة، مستفيدة من حالة الفوضى السياسية والانقسام، بما يهدد الأمن والاستقرار في مالي والمنطقة بأسرها.
بناءً عليه، يُعد هذا السيناريو أحد أكثر المسارات ترجيحًا في المرحلة المقبلة، إذا لم تُبادر السلطات الحالية إلى احتواء الأزمات المتفاقمة والحد من الانقسامات داخل بنية الحكم.
السيناريو الثاني: احتواء الخلافات داخل المجلس العسكري الانتقالي (مرجح)
يفترض هذا السيناريو أن المجلس العسكري بقيادة “أسيمي جويتا” لا يزال يحظى بسيطرة فاعلة على مفاصل المؤسسة العسكرية وعلى المشهد السياسي في مالي، على الرغم من بروز بعض الخلافات الداخلية وظهور أصوات معارضة داخلية، وتستند إمكانية تحقق هذا السيناريو إلى قدرة المؤسسة العسكرية، في مالي وفي دول الساحل عمومًا، على إعادة ترتيب صفوفها واحتواء التيارات المتمردة أو إقصائها من المشهد السياسي، وهو ما تؤكده السوابق في إعلان النظام عن إفشال عدة محاولات انقلابية منذ عام 2021، إضافة إلى تنفيذ حملات اعتقال واسعة شملت ضباطًا وجنرالات ومسؤولين، بعضها جرى بشكل استباقي. رغم ذلك، يواجه هذا السيناريو تحديات حقيقية قد تُعيق تحققه أو تُقلل من استدامته، أبرزها فشل المجلس العسكري في معالجة الملفات الأمنية والاقتصادية والتنموية، واستمرار الإغلاق السياسي، وإطالة أمد الفترة الانتقالية دون أفق واضح للانتقال الديمقراطي. هذه العوامل تغذي حالة من السخط الشعبي وتضعف الشرعية الداخلية للمجلس، ما يهدد تماسكه على المدى الطويل، وفي حال تحقق هذا السيناريو وتمكن المجلس من فرض استقرار نسبي داخل المؤسسة العسكرية، فمن المرجح أن يواجه:
تصاعد الضغوط الدولية، خصوصًا من فرنسا والدول الغربية والجزائر والمنظمات الإقليمية، للمطالبة بتسريع الانتقال السياسي.
تزايد المطالب الداخلية، من قِبل المعارضة والمجتمع المدني، بضرورة فتح المشهد السياسي وتوسيع دائرة المشاركة.
تحديات في إدارة التوازنات الإقليمية، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات بين القوى الدولية المتنافسة على النفوذ في منطقة الساحل.
بذلك، فإن استقرار المجلس العسكري لا يعني بالضرورة استقرار النظام ككل، إذ سيظل مشروطًا بمدى استجابته للضغوط الداخلية والخارجية، وقدرته على تجنب الانزلاق نحو سيناريوهات أكثر اضطرابًا.
السيناريو الثالث: إنهاء المرحلة الانتقالية والعودة للحكم المدني (غير مرجح)
يفترض هذا السيناريو إمكانية قيام السلطة في مالي بإنهاء المرحلة الانتقالية والانتقال إلى حكم مدني من خلال تنظيم انتخابات. ومع ذلك، فإن المحاولة الانقلابية الأخيرة، وما رافقها من تداعيات، تجعل تحقق هذا السيناريو غير مرجح في المدى القريب، نظرًا لتعقيد المشهدين السياسي والأمني، واستمرار هيمنة المؤسسة العسكرية على مفاصل السلطة. فقد رسخت المؤسسة العسكرية وجودها في الحياة السياسية خلال السنوات الأخيرة، تحت ذريعة مواجهة الجماعات الإرهابية والانفصالية، ما جعلها الفاعل الأساسي – وربما الوحيد – في إدارة الدولة. وتبرز مؤشرات عدة على تمسك المجلس العسكري بالسلطة، منها قرار تمديد الفترة الانتقالية في مايو الماضي لمدة خمس سنوات قابلة للتمديد، واستمرار تدهور الأوضاع الأمنية، لا سيما في مناطق الوسط والشمال، بالإضافة إلى الانغلاق السياسي واستبعاد الأصوات المدنية من عملية صنع القرار. كما عكست المحاولة الانقلابية الأخيرة الدور المحوري الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في ضبط المشهد، بل وقدرتها على التحرك الاستباقي لإفشال محاولات الإطاحة بها، ما يعزز من فرضية استمرار الحكم العسكري، ويقلل من فرص العودة إلى المسار المدني الديمقراطي.
وفي حال تحقق هذا السيناريو غير المرجح، فمن المتوقع أن يُفضي إلى نتائج، أبرزها:
تفاقم حالة الفوضى، نتيجة بقاء الملفات الأمنية والسياسية والاجتماعية دون معالجة فعالة.
ضعف الدولة المركزية، في ظل استمرار الانقسامات الإثنية والجغرافية وتنامي النزعات الانفصالية.
تراجع الثقة في العملية السياسية، سواء داخليًا من قبل القوى المدنية، أو خارجيًا من قبل الشركاء الدوليين.
بناءً عليه، فإن العودة إلى الحكم المدني في مالي، في ظل المعطيات الراهنة، تظل احتمالًا ضعيفًا، في ظل تغلغل النفوذ العسكري، وغياب الإرادة السياسية لتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي.
رابعًا: مسارات مقترحة لصانع القرار في مالي
في ضوء ما سبق، يمكن تقديم مسارات مقترحة لصانع القرار في دولة مالي تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية التي أدت إلى تكرار الانقلابات العسكرية، من خلال تبني استراتيجيات شاملة تجمع بين الإصلاح السياسي والاجتماعي، تعزيز قدرات المؤسسات، والارتكاز على التعاون الإقليمي لضمان استقرار مستدام.
مراجعة النهج التقليدي القائم على الحلول العسكرية: يتضح من تجربة دولة مالي أن الاعتماد الكامل على المعادلة العسكرية في معالجة الأزمات فشل في تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة، كما أسهم في تكرار الانقلابات العسكرية، ومن ثم تبرز الحاجة إلى اعتماد استراتيجيات أكثر شمولية وتكاملاً تأخذ في الاعتبار الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بدل الاقتصار على الحلول الأمنية والعسكرية فقط.
الحلول السياسية والاجتماعية: يُوصى بالتركيز على تبني آليات سياسية فعالة تشمل الحوار والمفاوضات وإشراك جميع الفاعلين السياسيين ضمن منظومة السلطة، كما ينبغي إعطاء أولوية لاحتواء الجماعات الإثنية، وتعزيز العدالة الاجتماعية والتوزيعية، وتمكين المجتمعات المحلية، مع السعي لتعزيز الاندماج الوطني وبناء هوية مشتركة. إضافة إلى ذلك، يتطلب ضمان الاستقرار طويل الأمد الانتباه للأبعاد العقائدية والدينية والإعلامية، بما يسهم في معالجة جذور النزاعات وتقوية اللحمة الوطنية.
إصلاح المجلس العسكري والمؤسسات المدنية: يتطلب الإصلاح إعادة هيكلة المجلس العسكري الانتقالي لضمان توازن واضح في توزيع السلطة بين مختلف الأجنحة العسكرية والمدنية، مع تحديد صلاحيات واضحة لكل جهة. كما يشمل ذلك دمج قوى المعارضة السياسية والمجتمعية في عمليات صنع القرار، سواء عبر تمثيلهم في الهيئات التشريعية أو المشاركة في لجان التشاور والمراقبة، بهدف تخفيف حدة الصراعات الداخلية، تعزيز الشرعية السياسية، وبناء ثقة أوسع بين المواطن والمؤسسة العسكرية والحكومة الانتقالية.
بناء قدرات المؤسسات الرقابية: تعزيز كفاءة وفعالية مؤسسات الرقابة والمساءلة في مالي، مثل هيئات مكافحة الفساد والمحاسبة العامة، لضمان رقابة صارمة على إدارة الموارد العامة والمالية الحكومية، ويستلزم ذلك تدريب الكوادر على أفضل الممارسات الدولية في التدقيق المالي والمحاسبة، وتطوير آليات للإبلاغ عن التجاوزات والمخالفات وحمايتها قانونيًا، بالإضافة إلى استخدام التكنولوجيا لتعزيز الشفافية، مثل إنشاء قواعد بيانات عامة للميزانيات والمشتريات الحكومية.
التنسيق الإقليمي لمواجهة التحديات المشتركة: يتطلب تعزيز التعاون بين الدول الإقليمية في مجالات الأمن والسياسة والتنمية، بهدف الحد من انتشار الأزمات وامتصاص آثارها السلبية، ويشمل ذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية، وضع استراتيجيات مشتركة، وتوحيد الجهود لمكافحة الجماعات المسلحة والانفصالية، بما يسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي وتخفيف الضغوط الأمنية والسياسية على كل دولة على حدة.