تشهد منطقة الساحل الإفريقي، ولا سيما دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تحولات متسارعة أفرزت واقعًا أمنيًا وسياسيًا جديدًا، تجسد في بروز فاعلين إقليميين ودوليين جدد، من بينهم روسيا عبر الفيلق الأفريقي (مجموعة فاجنر سابقًا) والصين وتركيا، إلى جانب منافسين غير تقليديين، في ساحة ظلت لعقود خاضعة لنفوذ قوى محددة مثل فرنسا والولايات المتحدة، وقد تزامنت هذه التحولات مع انحسار دور بعض الشركاء التقليديين، وتصاعد وتيرة التهديدات الإرهابية، ما أعاد رسم خريطة التوازنات الإقليمية.
وفي ظل هذا المشهد المضطرب، تزايد اهتمام مصر الفترة الأخيرة بمنطقة الساحل الإفريقي في إطار استراتيجية تهدف إلى إعادة الانخراط الإقليمي وتعزيز استقرار إقليم يتسم بمستوى عالٍ من الخطورة، إدراكًا لارتباط أمن شمال إفريقيا، ولا سيما الحدود الجنوبية والغربية لمصر، بما تشهده المنطقة من تهديدات أمنية عابرة للحدود، كما يستند هذا التوجه إلى اعتبارات اقتصادية وتنموية، تشمل توسيع آفاق التعاون الأفريقي وفتح أسواق جديدة، وهو ما انعكس في تحركات مصرية نشطة خلال عام 2025 تجاه مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بما يستدعي مقاربة تحليلية لأبعاد هذا الانخراط من منظور أمني واستراتيجي.
وفي هذا الإطار تتناول هذه الورقة التحليلية السياق الأمني والسياسي لدول الساحل الإفريقي وأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لمصر، في ظل التحولات الجارية في خريطة التحالفات الدولية وتراجع النفوذ الغربي، مقابل صعود قوى وفاعلين جدد في المنطقة، كما تستعرض أبرز محاور جولة وزير الخارجية المصري في يوليو 2025، وما حملته من رسائل سياسية وأمنية وتنموية، وتختتم الورقة بتقديم مسارات تحرك استراتيجية لتعزيز الحضور المصري مع دول الساحل الأفريقي.
أولًا: ملامح المشهد الأمني والسياسي في الساحل الأفريقي
منذ مطلع عام 2024، شهدت منطقة الساحل الإفريقي تبلور مشهد أمني وسياسي وإقليمي جديد، اتسم بجملة من التحولات البنيوية الهيكلية، يمكن إبرازها في عدة اتجاهات رئيسية:
إعادة تشكيل التحالفات السياسية والعسكرية: شهدت مالي والنيجر وبوركينا فاسو تحولًا ملحوظًا في توجهاتها الاستراتيجية، تمثل في الانسحاب من كل من مجموعة دول الساحل الخمس والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وتأسيس تحالف دول الساحل (CSS) في سبتمبر 2023، أعقبه في يوليو 2024 إعلان كونفدرالية الساحل، هذه الكيانات الجديدة عكست رغبة في الاعتماد المتبادل أمنيًا وتقليل الارتهان للشركاء التقليديين.
تعزيز النفوذ الروسي والتركي والإماراتي في الساحل الإفريقي: خلال العامين الأخيرين، تجسد الحضور الروسي في الساحل الإفريقي من خلال تعاقد مالي وبوركينا فاسو مع مجموعة “فاجنر” لتقديم الدعم العسكري المباشر، بما في ذلك نشر مئات العناصر وتوفير التدريب والاستخبارات والمشاركة في العمليات ضد الجماعات المسلحة، كما أمدت روسيا مالي بطائرات مقاتلة ومروحيات هجومية لتعزيز قدراتها الجوية. أما تركيا فقد وسعت تعاونها مع النيجر وبوركينا فاسو عبر تزويدهما بطائرات مسيرة من طراز “بيرقدار TB2″، وإرسال خبراء عسكريين لتدريب القوات المحلية، إضافة إلى توقيع اتفاقيات للتعاون الأمني والدفاعي وفي مجال التعدين. وفي المقابل، برز الدور الإماراتي في تقديم منح مالية ومساعدات إنسانية عاجلة لمالي والنيجر، وتمويل مشاريع للطاقة والبنية التحتية، فضلًا عن دعم برامج تدريب قوات الأمن، والمشاركة في مبادرات وساطة لتخفيف التوترات الإقليمية، هذه التحركات تعكس سعي تلك القوى لملء الفراغ الأمني والاقتصادي الذي خلفه تراجع النفوذ الفرنسي والأمريكي في المنطقة.
تصاعد التهديدات الإرهابية وتنافس التنظيمات المتطرفة: واصلت جماعتا نصرة الإسلام والمسلمين (الموالية للقاعدة) وتنظيم داعش (ولاية الساحل) نشاطهما المكثف، مع اشتباكات متبادلة بينهما للسيطرة على مناطق نفوذ، ما أضعف قدرات الجيوش الوطنية وأدى إلى ارتفاع الخسائر بين المدنيين، وقد سجلت المنطقة معدلات قياسية للضحايا وفق مؤشرات الإرهاب الدولية، مما جعلها إحدى أخطر بؤر العنف عالميًا.
هشاشة البنية الداخلية وتفاقم الأزمات الإنسانية: تعاني دول الساحل من ضعف القدرات العسكرية والموارد اللوجستية، فضلًا عن الأزمات الاقتصادية والعقوبات الدولية، ما قيد قدرتها على استعادة المناطق المتضررة أو توفير الخدمات فيها، وأدى إلى تفاقم النزوح وانعدام الأمن الغذائي.
ثانيًا: الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الساحل الإفريقي بالنسبة لمصر
تُعد منطقة الساحل الإفريقي من أكثر مناطق القارة اضطرابًا من الناحية الأمنية والسياسية، وتشكل نقطة تماس بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، ما يجعل استقرارها أو اضطرابها ذا انعكاس مباشر على الأمن القومي المصري، ومع التحولات الأخيرة في ميزان القوى الإقليمي وبروز فاعلين جدد، تزايدت أهمية هذه المنطقة في الحسابات الاستراتيجية لمصر، سواء من زاوية مكافحة الإرهاب أو حماية المصالح الاقتصادية والدبلوماسية، ويمكن بلورة أهمية هذه المنطقة للأمن القومي المصري في عدة عوامل:
التهديدات الأمنية ودوائر الخطر المباشر: يمثل الساحل الإفريقي بؤرة رئيسية لنشاط الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وعلى رأسها جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة، وتنظيم داعش ولاية الساحل، حيث تنشط هذه الجماعات في مناطق واسعة من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ويمتد خطرها شمالًا عبر طرق التهريب غير الشرعية ليصل إلى ليبيا، ومنها إلى حدود مصر الغربية، أو عبر السودان نحو الجنوب المصري.
الارتباطات المائية والموارد الاستراتيجية: رغم أن منطقة الساحل لا تقع بشكل مباشر ضمن حوض النيل، فإن عدم استقرارها ينعكس على دول متاخمة لمصر مثل السودان، بما قد يؤثر على مشروعات التنمية المائية وأمن الموارد المرتبط بنهر النيل، إلى جانب ذلك، تزخر المنطقة بموارد استراتيجية مثل اليورانيوم والذهب، ما يجعلها محل تنافس دولي حاد بين قوى كبرى، وهو تنافس قد يغير موازين القوى الإقليمية ويؤثر على المصالح المصرية في إفريقيا.
الأمن البحري والبعد الجيوسياسي: يمتد تأثير الساحل الإفريقي إلى أمن البحر الأحمر عبر الترابط الجغرافي والسياسي مع دول القرن الإفريقي، حيث قد يؤدي تفاقم الصراعات إلى تهديد الممرات البحرية الاستراتيجية التي ترتبط مباشرة بالأمن القومي المصري، خاصة أن المنطقة أصبحت مسرحًا لتنافس قوى دولية وإقليمية، مما يفرض على مصر تعزيز حضورها الإقليمي لتأمين مصالحها والدفاع عن دورها الاستراتيجي في القارة.
تهريب السلاح والجريمة المنظمة:تمثل منطقة الساحل الإفريقي أحد المسارات الرئيسة لتهريب الأسلحة بين ليبيا وغرب ووسط إفريقيا، في حركة متبادلة تغذي النزاعات المسلحة وتزيد من تعقيد المشهد الأمني الإقليمي، وتعمل شبكات التهريب العابرة للحدود في تنسيق وثيق مع جماعات إرهابية وتنظيمات إجرامية، ما يجعلها مصدر تهديد مباشر لمحيط مصر الإقليمي، إذ إن استمرار تدفق السلاح عبر هذه المسارات يرفع من احتمالات تسربه إلى مناطق قريبة من الحدود المصرية، بما يشكل خطرًا على الأمن الداخلي ويعزز قدرة الجماعات المتطرفة على شن عمليات داخل نطاق التأثير المصري.
ثالثًا: دلالات جولة وزير الخارجية المصري إلى دول الساحل الإفريقي – يوليو 2025
جاءت جولة وزير الخارجية السفير بدر عبد العاطي في أواخر يوليو 2025 لتشمل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في تحرك دبلوماسي واقتصادي وأمني لافت. هذه الجولة، التي رافقه فيها وفد كبير يضم 30 من رجال الأعمال وممثلي كبريات الشركات المصرية العامة والخاصة، عكست نهجًا مصريًا يجمع بين الدبلوماسية السياسية والدعم التنموي والأمني، ويمكن إبراز أهم دلالات هذه الجولة على النحو التالي:
التأكيد على الانخراط المصري في أمن الساحل: حرص وزير الخارجية خلال لقاءاته مع الدول الثلاث على التشديد أن مصر حريصة على الانخراط الفعال مع دول غرب أفريقيا وتعزيز التنسيق معها في قضايا الساحل، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن. ففي نيامي، أوضح عبد العاطي أن زيارته تهدف لتكثيف التعاون الثنائي والتنسيق الإقليمي حول جهود دحر الإرهاب وترسيخ الاستقرار في المنطقة، ويعكس هذا الخطاب رغبة مصر في إبراز نفسها كشريك أمني موثوق لدول الساحل، خاصة في ظل تقلص الدور التقليدي للقوى الغربية هناك.
الدعم الأمني وتعزيز القدرات الإقليمية: حمل الوزير المصري بدر عبد العاطي رسائل خطية من الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى قادة مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تضمنت عروضًا لتعزيز التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، ففي لقائه مع رئيس بوركينا فاسو إبراهيم تراوري، أكد استعداد مصر للانخراط في جميع أشكال التعاون مع دول الساحل لمواجهة عدم الاستقرار الإقليمي، معلنًا التزامها بتقديم “كافة أشكال المساعدة” بما يشمل الدعم اللوجستي، والتدريب الاستخباراتي، والتسليح، ولعل هذا التعهد العلني يعكس توجهًا مصريًا واضحًا نحو أن تكون القاهرة جزءًا فاعلًا في المعادلة الأمنية الجديدة بالمنطقة.
الشراكة التنموية والاستثمار في الاستقرار:أبرز الوزير الجانب التنموي في الدعم المصري، حيث رافقه وفد من كبار رجال الأعمال يمثلون قطاعات البناء والطاقة والزراعة والصناعات الدوائية وغيرها. وعُقدت منتديات أعمال في بوركينا فاسو ومالي لبحث فرص الاستثمار، مع تأكيد جاهزية الشركات المصرية للمشاركة في مشروعات البنية التحتية، والكهرباء، والزراعة، والصحة، والنسيج. ويعكس هذا التوجه قناعة مصرية بأن التنمية تمثل ركيزة أساسية للاستقرار، إذ تسهم المشروعات والاستثمارات في معالجة جذور عدم الاستقرار عبر خلق فرص عمل وتحسين الأوضاع المعيشية في المناطق الهشة التي تشهد نشاطًا متزايدًا للجماعات المسلحة.
دعم الخطاب المعتدل وبناء العلاقات الثقافية: ركزت الجولة على إبراز دور المؤسسات الدينية والتعليمية المصرية في مكافحة التطرف في دول الساحل، حيث شدد الوزير بدر عبد العاطي على إسهام الأزهر الشريف في نشر قيم الإسلام الوسطي في بوركينا فاسو عبر البعثات التعليمية والدعوية، واستمرار استقبال طلابها للدراسة في مصر، كما ثمن دعم بوركينا فاسو للمرشح المصري–الإفريقي لمنصب مدير عام اليونسكو، في دلالة على حرص القاهرة على توسيع علاقاتها الثقافية والدبلوماسية بما يتجاوز البعد الأمني ليشمل التنسيق في المحافل الدولية.
تعزيز الحضور السياسي المصري في أفريقيا: تأتي هذه الجولة في إطار مسار متواصل لاستعادة زخم الحضور المصري في القارة منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي، لاسيما بعد رئاسة مصر للاتحاد الأفريقي عام 2019، وقد شملت الزيارة ست دول أفريقية، بينها ثلاث من دول الساحل، ما يعكس إدراك القاهرة لغرب أفريقيا كعمق استراتيجي متجدد، كما تمثل الزيارات رفيعة المستوى إلى باماكو ونيامي وواجادوجو حدثًا نادرًا منذ عقود، ورسالة واضحة بأن الحضور المصري يمتد إلى قلب القارة ولا يقتصر على وادي النيل أو القرن الأفريقي. وأكد الوزير بدر عبد العاطي أن جولته تهدف إلى تعزيز التواصل جنوب–جنوب ودعم التنمية والاستقرار، فيما يعكس اصطحاب وفد اقتصادي كبير التوجه نحو تحويل التعاون إلى شراكات ومشروعات عملية.
رابعًا: مسارات مقترحة لتعزيز مصر علاقاتها مع دول الساحل الافريقي
يمكن طرح مجموعة من المسارات المقترحة لتعزيز مصر علاقاتها مع دول الساحل الافريقي، من خلال:
الاستمرار في النهج المصري الشامل تجاه دول الساحل:أثبتت التجربة أن المقاربة المصرية المتكاملة، التي تجمع بين الأبعاد الأمنية والتنموية والفكرية، تحظى بقبول واسع لدى دول الساحل التي باتت متحفزة للابتعاد عن الحلول الأمنية البحتة التي أثبتت محدوديتها. فعلى الصعيد الأمني، يمكن لمصر أن تعزز من مساهمتها من خلال زيادة عدد الدورات التدريبية للضباط والجنود من دول الساحل في أكاديمياتها العسكرية، إلى جانب توسيع نطاق برامج تبادل المعلومات الاستخباراتية، بما يدعم القدرات الوطنية لهذه الدول في مواجهة التهديدات الإرهابية والتنظيمات المسلحة. وعلى الصعيد التنموي، ينبغي متابعة ما تم الاتفاق عليه خلال جولة وزير الخارجية إلى دول الساحل، عبر إرسال فرق فنية مختصة لدراسة الجدوى الاقتصادية والاجتماعية للمشروعات المقترحة، والتعجيل ببدء تنفيذ استثمارات الشركات المصرية الموعودة. أما فكرياً وإعلامياً، فإن تنفيذ المقترحات الواردة أعلاه كإنشاء منصة إعلامية مشتركة وتكثيف أنشطة الأزهر الشريف في مجالات التعليم والدعوة ومكافحة الفكر المتطرف، من شأنه تعزيز مناعة مجتمعات الساحل ضد اختراقات التطرف. وفي هذا الإطار، تبرز الحاجة إلى تأسيس لجنة للتنسيق بين وزارات الخارجية والاستثمار والأوقاف والإعلام، لضمان تكامل الجهود ومتابعة تنفيذ خطة متكاملة وفعالة تجاه دول الساحل، بما يكفل استمرارية المبادرات المصرية ويمنع تشتتها أو تراجع زخمها في ظل التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة.
بناء شراكات استراتيجية مستدامة مع دول الساحل:رغم الزخم الحالي في العلاقات، تواجه دول الساحل تحديات انتقالية، من بينها التعهدات بالعودة إلى الحكم المدني مستقبلاً، ما يستدعي إرساء أسس تعاون طويلة الأمد تضمن استمرارية الدور المصري. وفي هذا الإطار، يُقترح توقيع اتفاقيات تعاون رسمية تغطي مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب، تتضمن برامج تدريب سنوية ومنح دراسية في الكليات العسكرية المصرية، إلى جانب اتفاقيات في مجالي الطاقة والزراعة تتيح لمصر الاستثمار في مشروعات استراتيجية كالسدود أو المزارع النموذجية مقابل عقود توريد طويلة الأجل. كما يمكن تبني صيغ توأمة بين المدن والجامعات لتعميق الروابط الشعبية والثقافية، مع تنظيم قمة دورية (سنوية أو نصف سنوية) تجمع قادة مصر ودول الساحل الثلاث لمراجعة مسار التعاون وتحديد أولويات المرحلة المقبلة. بهذه الصيغة، يتحول التعاون إلى إطار مؤسسي راسخ يحافظ على زخمه بغض النظر عن تغير القيادات أو الظروف.
استثمار الحضور المصري في المنظمات الإقليمية والدولية: وذلك من ضرورة مصر توظيف موقعها المحوري في الاتحاد الأفريقي لتعزيز الدعم لقضية استقرار الساحل. ففي الإطار الأفريقي، يمكن للقاهرة الدفع نحو تفعيل الصندوق الأفريقي للسلم لتقديم مساعدات مالية ولوجستية عاجلة لجيوش الساحل المنخرطة في مكافحة الإرهاب، إضافة إلى إحياء مقترح نشر قوة أفريقية لحفظ السلام في مناطق الفراغ الأمني، بجهود أفريقية وبإسناد لوجستي دولي، لضمان عدم ترك فجوات بعد انسحاب القوات الغربية. وعلى الصعيد الدولي، تستطيع مصر عبر علاقاتها مع الدول العربية والمؤسسات التمويلية حثها على زيادة استثماراتها ومساعداتها في دول الساحل ضمن إطار تحرك عربي–أفريقي مشترك. كما يمكنها، من خلال عضويتها النشطة في مجلس الأمن أو من خلال الشراكات الأممية، الدفع نحو تعيين مبعوث أممي خاص لمنطقة الساحل والصحراء من دولة أفريقية وربما شخصية مصرية لتنسيق الجهود الدولية وتوحيد المبادرات تحت مظلة واحدة، بما يقلل من الازدواجية والتنافس بين الفاعلين الدوليين.
الحفاظ على نهج السياسة الخارجية المصرية المتوازنة: وذلك من دعم القدرات الأمنية لدول الساحل من خلال أشكال الدعم غير المباشر، مثل التدريب، والتسليح المحدود، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، مع الاستعداد لتقديم إسناد لوجستي عند الطلب في إطار العمل الأفريقي المشترك، كالمساهمة في نقل القوات أو المعدات بطائراتها، ويجسد هذا النهج حرص مصر على القيام بدور الشريك الموثوق، مع تجنب أي تدخل مباشر قد يُستغل دعائيًا من قبل الجماعات المتطرفة أو يورطها في تجاذبات القوى الدولية.
تطوير مركز الساحل والصحراء: لضمان فاعلية مركز مكافحة الإرهاب (س.ص) في القاهرة، من المهم توفير الموارد المالية والبشرية الكافية لعمله، ويمكن لمصر دعوة الدول الأعضاء لزيادة مساهماتها في ميزانية المركز، مع استعدادها لتغطية الحصة الأكبر كبادرة حسن نية، كما يُستحسن توسيع فريق الخبراء ليضم متخصصين من دول الساحل ومن دول شمال أفريقيا، للاستفادة من خبراتها، كما يمكن للمركز إطلاق مبادرات عملية، مثل تنظيم تمرين عسكري مشترك على أرض مصر (في قاعدة محمد نجيب مثلًا) يحاكي التصدي لتهديد إرهابي عابر للحدود، أو تأسيس فريق تدخل إقليمي سريع تحت مظلته لدعم أي دولة عضو تتعرض لهجوم واسع، وهذه الخطوات ستعزز مكانة المركز وتجعله ركيزة أمنية تعتمد عليها دول الساحل ومصر على حد سواء.
تعزيز الانفتاح على القوى المدنية والقبلية: ضرورة عدم اقتصار الانخراط المصري في دول الساحل على التعامل مع النخب العسكرية الحاكمة، بل من المهم بناء جسور تواصل مع القوى المدنية وزعماء القبائل باعتبارهم شركاء أساسيين في الاستقرار، ويمكن لمصر توظيف قوتها الدبلوماسية الناعمة عبر الدعوة إلى مؤتمر للمصالحة الوطنية والتنمية تستضيفه القاهرة، يجمع ممثلين عن الحكومات والجيوش، إلى جانب زعماء القبائل ومؤسسات المجتمع المدني من كل دولة. يهدف هذا المؤتمر إلى بلورة رؤية موحدة لمكافحة الإرهاب وتعزيز الحكم الرشيد، بما يعزز صورة مصر كوسيط نزيه يدعم الاستقرار الشامل ويبتعد عن الانحياز لأي طرف.
وختامًا يمكن القول أنه يتضح أن استقرار منطقة الساحل الإفريقي يمثل عنصرًا حيويًا في معادلة الأمن القاري، حيث إن ترك هذه المنطقة عرضة للتقلبات السياسية والانهيار الأمني من شأنه أن يفاقم تهديدات الإرهاب ويمدها إلى دول الشمال الإفريقي وحوض المتوسط. وفي هذا الإطار، فإن الانخراط المصري في دعم دول الساحل، عبر مقاربة شاملة تمزج بين البعدين الأمني والتنموي، يشكل استثمارًا استراتيجيًا طويل الأمد يهدف إلى معالجة جذور عدم الاستقرار قبل تفاقمها.
لقد أظهرت التحركات المصرية الأخيرة دينامية دبلوماسية واعدة أسهمت في تقوية الروابط مع دول الساحل، غير أن تحويل هذا التقارب إلى شراكات راسخة يستلزم الوفاء بالتعهدات المعلنة، وتجنب الانخراط غير المحسوب، وتعزيز قنوات الثقة والتعاون المؤسسي. ومن خلال تبني رؤية واضحة وآليات تنسيق محكمة، يمكن لمصر أن تضطلع بدور محوري في صياغة بيئة إقليمية أكثر استقرارًا، بما يرسخ مكانتها كفاعل رئيسي على الساحة الإفريقية. إن نجاح هذه المقاربة لا يمثل مكسبًا لمصر فحسب، بل إسهامًا استراتيجيًا في إعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي في الساحل الإفريقي، بما يضع أسسًا أكثر صلابة للسلام والتنمية في واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة وتعقيدًا.