تشهد المنطقة العربية في السنوات الأخيرة تحولات عميقة في طبيعة توظيف الرياضة، ليس بوصفها نشاطًا ترفيهيًا أو مجرد مجال للمنافسة، بل باعتبارها أداة استراتيجية متعددة الوظائف، تستخدم في تحقيق أهداف اقتصادية، سياسية، وتنموية واسعة. وتأتي المملكة العربية السعودية في مقدمة الدول التي اعتمدت هذا التوجه، حيث وضعت قطاع الرياضة في قلب رؤيتها المستقبلية “رؤية 2030″، وخصصت له موارد هائلة، وأطلقت من خلاله مشاريع استثمارية، سياحية، وترويجية كبرى، تهدف إلى إعادة تشكيل صورة المملكة على المستويين الإقليمي والدولي.
في ظل وتيرة التحولات المتسارعة التي يشهدها المشهد الرياضي في المملكة العربية السعودية، تثار تساؤلات حول الأبعاد الاستراتيجية لهذا التوجه: هل يمثل انعكاسًا لسياسة اقتصادية مدروسة تستهدف تنويع مصادر الدخل الوطني وتعزيز القوة الناعمة؟ أم يُمكن فهمه في سياق جهودٍ اتصالية تهدف إلى تحسين الصورة الذهنية للمملكة على الصعيد الدولي في مواجهة التحديات والانتقادات المتكررة؟
كما تطرح هذه الديناميكية فرصًا أمام دول أخرى في المنطقة تمتلك مقومات تاريخية وثقافية وسياحية تؤهلها للعب دور مهم في مجال السياحة الرياضية، إذا ما تم استثمارها برؤية تكاملية ذكية. وفي هذا الإطار تسعى هذه الورقة التحليلة إلى قراءة معمقة في التحول الرياضي السعودي، وتفكيك دوافعه الاقتصادية والسياسية، وتحليل انعكاساته الإقليمية، مع طرح مقترحات عملية يمكن لدول أخرى تبنيها لتعزيز حضورها في هذا المضمار الواعد.
أولًا: قراءة في تحولات المشهد الرياضي في السعودية في إطار رؤية 2030
تحظى الرياضة بمكانة محورية في رؤية السعودية 2030، حيث أصبحت أداة استراتيجية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ووسيلة لتعزيز الحضور الدولي للمملكة. وقد وضعت الرؤية أهدافًا طموحة لتحويل القطاع الرياضي إلى صناعة متكاملة تدعم الاقتصاد الوطني، وتسهم في تحسين جودة الحياة، وتكون أداة للقوة الناعمة.
وتسعى رؤية 2030 إلى رفع مساهمة القطاع الرياضي في الناتج المحلي الإجمالي من نحو 1% حاليًا إلى ما بين (2.5-3)% بحلول عام 2030، وهو ما يعادل تقريبًا 16.5 مليار دولار سنويًا. وينظر إلى هذا التوجه كجزء من استراتيجية المملكة لتنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط، حيث يتوقع أن يوفر قطاع الرياضة أكثر من 260 ألف فرصة عمل جديدة بحلول نهاية العقد، خاصة في مجالات مثل التسويق الرياضي، تنظيم الفعاليات، التدريب، والاستثمار في البنية التحتية.
كما تهدف المملكة إلى جذب 100 مليون سائح سنويًا بحلول عام 2030، ويتوقع أن يشكل الزوار القادمون لحضور الفعاليات الرياضية العالمية نسبة كبيرة منهم. فقد ساهمت استضافة بطولات كبرى مثل رالي داكار، فورمولا 1، كأس السوبر الإسباني والإيطالي، وبطولات التنس والملاكمة، في ترسيخ مكانة السعودية على خارطة السياحة الرياضية العالمية. وفي هذا السياق، أسست “شركة رياضة” التابعة لصندوق الاستثمارات العامة لتقود الاستثمارات في مشاريع رياضية كبرى تشمل بناء استادات جديدة، وتطوير مدن رياضية، وإقامة شراكات مع أندية ومؤسسات رياضية دولية.
ويعد تطوير البنية التحتية والاحتراف الرياضي من الركائز الأساسية في الرؤية، إذ خصصت الحكومة السعودية مليارات الريالات لإنشاء وتحديث الملاعب، الأكاديميات، الأندية، والمراكز المجتمعية. كما أطلقت برامج وطنية لدعم المواهب الرياضية الشابة، وتمكين المرأة من ممارسة الرياضة، حيث شهدت السنوات الأخيرة إطلاق دوري نسائي، وارتفاعًا في عدد الفعاليات المجتمعية والبطولات المفتوحة. وتهدف هذه السياسات إلى رفع نسبة ممارسة الرياضة بين السعوديين من 13% إلى أكثر من 40% بحلول عام 2030.
وتسعى المملكة أيضًا إلى توظيف الرياضة كأداة لتعزيز قوتها الناعمة عالميًا. ففي هذا الإطار، استحوذ صندوق الاستثمارات العامة على نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي، إلى جانب سيطرته على أكبر الأندية السعودية (الهلال، النصر، الأهلي، الاتحاد)، ما يعكس توجهًا نحو بناء نفوذ رياضي إقليمي ودولي. وتهدف المملكة إلى إدراج الدوري السعودي ضمن قائمة أفضل 10 دوريات في العالم، عبر استقطاب نجوم عالميين مثل كريستيانو رونالدو، كريم بنزيما، ونيمار. ويشمل هذا التوسع الرياضي كذلك رياضات الجولف، التنس، والفنون القتالية، في دلالة على تبني رؤية شاملة للرياضة كأداة استراتيجية للظهور والتأثير على الساحة الدولية.
ثانيًا: أدوات السعودية لتحويل الرياضة لقطاع فاعل في الاقتصاد الوطني
استضافة الأحداث الرياضية الكبرى: حققت المملكة إنجازات لافتة على صعيد تنظيم البطولات الرياضية الكبرى، أبرزها:
كأس العالم لكرة القدم 2034، حيث حصل ملف الاستضافة السعودي على أعلى تقييم في تاريخ البطولة، ما يعكس جودة البنية التحتية والتخطيط المتكامل.
كأس آسيا 2027، التي تمثل محطة مهمة في طريق التحضير للمونديال، وتواكبها خطط لتطوير الملاعب والمرافق وفقًا لأحدث المعايير.
الألعاب الآسيوية 2034، والتي ستُقام في العام ذاته مع كأس العالم، ما يجعل من عام 2034 لحظة مفصلية في التاريخ الرياضي للمملكة.
تنوع الفعاليات الرياضية:تبنت السعودية سياسة تنويع الفعاليات الرياضية بما يلبي اهتمامات شرائح جماهيرية متعددة:
في رياضات السيارات، تستضيف المملكة سباقات الفورمولا 1 (منذ 2022)، ورالي داكار (منذ 2020)، وفورمولا إي.
في رياضات القتال والفنون القتالية المختلطة، نظمت السعودية نزالات عالمية كبرى مثل “نزال البحر الأحمر” و”نزال القرن”، بالتعاون مع بطولة القتال النهائي والمعروفة ب(UFC).
في الرياضات الإلكترونية، تستضيف المملكة تنظيم أول أولمبياد عالمي للرياضات الإلكترونية خلال الفترة من 7 يوليو حتى 24 أغسطس 2025م، إلى جانب بطولات عالمية مثل كأس العالم للرياضات الإلكترونية.
وفي رياضات النخبة، استضافت المملكة نهائيات رابطة محترفات التنس وبطولة أرامكو للسيدات للغولف.
تطوير البنية التحتية الرياضية:استثمرت السعودية في مشروعات بنية تحتية ضخمة لدعم استضافتها للأحداث العالمية، أبرزها:
بناء وتجديد 15 ملعبًا رياضيًا استعدادًا لكأس العالم 2034، بتركيز على التصميم الأيقوني والتكنولوجيا الحديثة.
تطوير مدن رياضية ذكية مثل القدية ونيوم، والتي تتضمن مرافق متعددة الأغراض تلبي احتياجات البطولات والجماهير.
تحسين شبكات النقل والخدمات اللوجستية لتمكين الوصول السلس إلى الفعاليات واستيعاب الزوار الدوليين.
ثالثًا: الأثر الاقتصادي الملموس للرياضة في السعودية
انعكست الاستراتيجية السعودية لتعزيز الرياضة كأداة اقتصادية في نتائج ملموسة على مستويات متعددة، أبرزها السياحة، وفرص العمل، وتدفقات الاستثمار:
السياحة الرياضية: ارتفع عدد السياح المرتبطين بالفعاليات الرياضية من نحو 5 ملايين في عام 2018 إلى أكثر من 25 مليونًا في عام 2024.
سوق العمل:فقد ساهم توسع القطاع الرياضي في خلق نحو 200 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، موزعة بين مجالات تنظيم الفعاليات، التسويق الرياضي، التدريب، والبنية التحتية.
جذب الاستثمارات: وفي جانب الاستثمار، تم ضخ أكثر من 10 مليارات دولار في رياضات السيارات، والغولف، والملاكمة، لتصبح الرياضة ثاني أكبر قطاع غير نفطي جاذب للاستثمارات في المملكة، بعد قطاع السياحة، وقد أسهم ذلك في تحسين ترتيب السعودية في المؤشرات الرياضية العالمية، إذ تقدمت من المركز 68 إلى المركز 12 خلال خمس سنوات فقط، مما يعكس الطفرة في الأداء المؤسسي والاحترافي.
تحسن المؤشرات:تتوقع المملكة أن تساهم الرياضة والسياحة مجتمعتين بنسبة تصل إلى 17% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2030، وهو ما يؤكد الرهان الاستراتيجي على هذين القطاعين كقاطرتين للنمو المستدام. ومع ذلك، تشير بعض التحذيرات إلى ضرورة إدارة هذه المشاريع بكفاءة لتفادي مخاطر ما يُعرف بـ”الفقاعة الاستثمارية”، خصوصًا مع تسارع وتيرة الإنفاق في القطاع الرياضي.
رابعًا: هل تسعى السعودية لإعادة تشكيل صورتها الدولية من خلال الاستثمار في الرياضة؟
يُستخدم مصطلح “الغسيل الرياضي” (Sportswashing) للإشارة إلى استخدام بعض الدول للرياضة كوسيلة لتحسين صورتها العامة، لا سيما في ما يتعلق بسجلاتها الحقوقية والسياسية، من خلال استضافة فعاليات كبرى، والتعاون مع مؤسسات رياضية عالمية، واستقدام نجوم الرياضة.
في السنوات الأخيرة، برزت المملكة العربية السعودية كلاعب محوري في المشهد الرياضي العالمي، مدفوعة باستثمارات واسعة تهدف إلى تحقيق أهداف اقتصادية وتنموية ضمن “رؤية 2030″، ورغم ما تطرحه من طموحات تحديثية، يرى مراقبون أن هذا الحضور الرياضي المتنامي يحمل أيضًا أبعادًا سياسية، حيث يُوظف لتعزيز الصورة الدولية للمملكة وإبرازها كدولة منفتحة ومزدهرة.
ويمكن فهم هذا التوجه من خلال:
البُعد السياسي للاستثمار الرياضي: تمثل استثمارات السعودية في الرياضة – لا سيما كرة القدم – أحد أبرز أوجه هذا التوجه، من خلال الاستحواذ على أندية، واستضافة بطولات، والتعاقد مع لاعبين عالميين. ويُنظر إلى هذه التحركات، خاصة في الأوساط الغربية، على أنها جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تحسين الصورة الخارجية للمملكة.
الترفيه والتنمية في إطار تحول اجتماعي واقتصادي: تركز المملكة العربية السعودية في رؤيتها التنموية على استخدام الرياضة والترفيه كأدوات لتحسين جودة الحياة وتعزيز مشاركة الشباب في الحياة العامة، وذلك ضمن مسار أوسع من التحديث الاجتماعي والاقتصادي. وفي هذا السياق، يشير بعض المراقبين إلى أن هذا التحول لا يزال يتركز بشكل أساسي في الجوانب الاقتصادية والثقافية، بينما لا تظهر حتى الآن مؤشرات واضحة على تغييرات موازية في المجالين السياسي والحقوقي.
البُعد الاتصالي وبناء العلامة الوطنية (Nation Branding): يُستخدم النشاط الرياضي المكثف كأداة استراتيجية لبناء صورة ذهنية جديدة للمملكة، تبرزها كوجهة عالمية حديثة ومنافسة على المستويين السياحي والثقافي. ويُعد ذلك جزءًا من توجه متكامل لإعادة تقديم السعودية للعالم، من خلال سردية جديدة تركز على الانفتاح، الابتكار، والاستثمار في المستقبل.
القوة الناعمة وتعزيز النفوذ الإقليمي والدولي: يعزز التوسع في المجال الرياضي من الحضور السعودي على الساحة العالمية، بما يتجاوز الإطار الاقتصادي ليصل إلى التأثير الثقافي والرمزي، مما يسهم في توسيع قنوات التواصل مع الشعوب والحكومات، وتعزيز مكانة المملكة كفاعل دولي يتمتع بالقدرة على التأثير وصياغة أجندات إقليمية ودولية.
خامسًا: الرياضة كمصدر دخل قومي.. الفرص المتاحة أمام مصر
تمتلك مصر رصيدًا تاريخيًا وبشريًا كبيرًا في المجال الرياضي، يؤهلها لتحويل الرياضة من مجرد نشاط ترفيهي إلى أحد مصادر الدخل القومي، ويمكن للدولة استغلال هذا القطاع من خلال مجموعة من الفرص الاقتصادية الواعدة:
إنشاء هيئة وطنية للسياحة الرياضية: تأسيس كيان مشترك بين وزارتي السياحة والشباب والرياضة، تكون مهمته وضع استراتيجية متكاملة لتطوير السياحة الرياضية في مصر، بحيث يتولى هذا الكيان تنسيق الفعاليات الرياضية الكبرى، جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية، وتصميم منتجات سياحية رياضية تستهدف الأسواق الخليجية والأوروبية.
محاكاة النموذج السعودي في ربط الرياضة بالسياحة:الاستفادة من تجربة مشروع البحر الأحمر في السعودية، حيث تم دمج الرياضة ضمن استراتيجية جذب السياح، يمكن النظر في إمكانية تطبيق نموذج مشابه في المدن الساحلية المصرية – مثل الغردقة وشرم الشيخ والعلمين – من خلال تطوير بنى تحتية رياضية مخصصة للسياحة، واستضافة فعاليات رياضية دولية، بما يسهم في رفع القدرة التنافسية لتلك المدن على خريطة السياحة الإقليمية والدولية.
تسويق مصر كوجهة للمعسكرات الشتوية والدورات التحضيرية: إطلاق حملة دولية تستهدف الأندية الأوروبية والعربية الباحثة عن مناخ دافئ لإجراء معسكرات إعداد شتوية، ويمكن أن تستند الحملة إلى النجاحات المناخية والتنظيمية التي حققتها دول مثل قطر والإمارات.
تطوير “مناطق تحضيرية” رياضية بمواصفات دولية:إنشاء مناطق تدريب رياضية متكاملة في مدن مثل أسوان، الأقصر، أو العين السخنة، تضم بنية تحتية بمعايير دولية، ما يجعلها مراكز جذب للفرق العالمية خلال مواسم الإعداد.
توظيف الرياضات التراثية والتقليدية: الاستثمار في تطوير فعاليات رياضية ذات طابع ثقافي فريد مثل سباقات الهجن في سيناء، والمصارعة الشعبية في الصعيد، لتصبح جزءًا من عروض السياحة الثقافية والرياضية الموجهة للأسواق المهتمة بالتراث.
دمج الرياضة مع مسارات السياحة العلاجية والاستشفائية: إنشاء مراكز متخصصة تجمع بين النشاط الرياضي والعلاج الطبيعي على النمط الأوروبي، في مواقع مثل واحات سيوة أو العين السخنة، ما يخلق منتجًا سياحيًا جديدًا يجمع بين الصحة والترفيه.
إعادة تقييم السياسات الرياضية وتعزيز البنية التحتية:مراجعة شاملة للسياسات الرياضية الحالية بهدف تفعيل الاستثمار في البنية التحتية، لاستضافة فعاليات رياضية إقليمية ودولية ترفع من عوائد السياحة والإعلام والتسويق الرياضي.
توظيف الرياضة كأداة للدبلوماسية الشعبية: تفعيل المبادرات الرياضية المشتركة مع الدول الإفريقية والعربية، من خلال البطولات والبعثات التبادلية، بما يعزز من نفوذ مصر الإقليمي ويرسّخ صورتها كقوة ناعمة في القارة.
تمكين القطاع الخاص المصري من الاستثمار في الرياضة إقليميًا: تقديم حوافز وتسهيلات للشركات المصرية للاستثمار في القطاع الرياضي داخل وخارج مصر، خاصة في الدول الإفريقية والعربية، عبر الأندية والأكاديميات والمرافق.
موضوع رائع واظن السعودية نجحت في تحقيق ده